لوحة

لــ نضال كرم

 

………………….. قصة قصيرة

لم يرعوِ عن ممارسة الكذب ومقاربة الخيانة، كما لم تكن لتستغرب كثرة من يصدّقنه من عشيقاته، إذ سبق لها أن وقعتْ في فخه، ومنذ ارتضت به زوجاً امّحتْ صورة الرجل الذي كان ملاذاً لها وحلماً، كل ما كانت تحققه في حياتها أوقفته وعطّلته إرضاء لرغبته، ابتعدت عن عالمها لأجله، عارضتْ كل قناعاتها وطريقة تفكيرها ومحاكمتها للأمور مُذْ قبلتْ به بالشكل التقليدي المقيت بعد إصرار أهلها بأن تتزوج به، حين حدث كل ذلك كانت إنسانة أخرى.


لطالما كان ثغره يقطر نفاقاً، إن تملّقَ حصلَ على درجة الأستذة، إنْ جاملَ أوغلَ في غياهب الكذب، وإن تحدَّث بالغَ في نفاقه، ولم يكن هذا لون مقبول ضمن ما اختارته من ألوان لحياتها .
رائحة الخيانة التي تفوح منه تكاد تجعلها تتقيأ أمعاءها في كل مرة يقترب منها، لم تكن في حياتها السابقة لتذعن للون السواد فتستسلم له، لكنها الآن سلّمتْ أمرها لقدرها، ورغم دهشتها لاستكانتها تلك، بيد أنها اعتبرتْ أن ثمة محرك قوي يقود آلة تفكيرها.


باعتْ في سوق الرجال نَظَرَها وسَمْعَها وآلةَ الكلام في فمها، حين باعتْ هذا الثالوث لم تقبض الثمن، وما كانت تريد مقابلاً إلا راحة البال، استطاع أن يغيّر نظرتها إلى الرجال عموماً، وتمكّن بإتقانٍ مُلْفِتٍ أن يبعدها جذرياً عنه، باتَ الرجال لديها مُبدعين بالمماطلة والمجادلة والمساومة و .. بالثرثرة المجانية ويضاهون بثرثرتهم ما يَتّهمون به معشر النساء، ولم تكن لتعتبره عالمها، رجعتْ من سوقهم وحُنين تَسألها عن خُفيّها.


بات إحساسها بجميع الرجال لصيقاً بها أنى حلّتْ، تبتعدُ عنهم وتنفرُ منهم، في الشارع، في العمل، وحتى حين تزورُ بيت أهلها، لكن ما السبيل لجعل من يشاركها حياتها يبتعد عنها ؟ تسألُ نفسها مراراً دونما فائدة.


ذات فضيحة مدوّية لخيانةٍ مَشهودة، وبُعيدَ مُشاجرة عقيمة، لم تَفِضْ بثورةٍ منها أو اعترافٍ منه، وقفتْ أمام لوحة من لوحاتها، تذكّرت أنها تشاجرتْ معه يومَ أصرَّتْ على تثبيتها مُعترِفاً لها بأنه يكره لوحاتها، وبأنه يمقتُ هذه اللوحة بالذات، كانت اللوحة تمثل حالة عجز عند رجل يقف مطأطئ الرأس منكسراً.


دمع حار يسّاقط من عينيها وقد أحستْ بأن العجز انتقل إليها وما عادت بقادرةٍ على اتخاذ قرارٍ بشأن حياتها معه، بعد مرور سنة ونيّف على زواجهما دون حصول الحمل، كانت النسوة من حولها قد سَلبْنها كل ما يمتُّ إلى أنوثتها بصلة، فما إن اكتشفتْ خيانته لها بعد شهرين من الزواج حتى باتتْ تمقتُ كل حديث يدور حول الإنجاب، كل من يعرفها بات يلاحقها بالسؤال فيمَ إذا خبّأت في أحشائها جنيناً، جاراتها يُتعبنها بالسؤال، صديقاتها يتشاجرنَ معها حين تصمت، زميلاتها في العمل يؤنّبنها، أختها الوحيدة التي لم تكن تسألها، أما أمها … فهنا الطامة الكبرى، بعد محاولاتٍ باللين والإقناع، فارَ غضبُها دفعة واحدة، مُطلِقةً أيماناً غليظاً بأنها لن تزورها في بيتها قبل أن تخبرها بحملها، كادت تقول لأمها بأن زوجها عقيمٌ وخائن، أصيبت بحالة هستيرية مفاجئة نُقِلَتْ على إثرها إلى المستشفى، حين علم الزوج رمى ابتسامة هازئة وخرج.


لم تكن بحاجة إلى مُحرّضٍ أكثرَ مما حدث الليلة لتتخذ قراراً أجّلته كثيراً، ارتدتْ ملابسها كيفما اتفق لتخرج من البيت فجأة، في حين كان الزوج منشغلاً بمتابعة فيلم أجنبي .
كانت أختها قد سألتها ذات مرة والبكاء ضيف ثالث ثقيل بظلّه حدَّ الغرق في لجة بحره، عن طريقة اكتشافها خيانته، فأجابتها وقتذاك :


– النساء يمتلكن حاسة سابعة خاصة بخيانة الأزواج لهنّ، يكتشفنَ ذلك بسهولة، إلا أنهن يصمتنَ خشية تخريب بيوتهن.


– هل تريدين النجاة من أتون نارك المشتعلة في صدرك ؟
– أأطلب الطلاق ؟
– لا .. انشغلي عن التفكير به، عودي إلى عالمكِ الخاص بعيداً عن رجس خيانته إلى أن يؤوب إلى دفء بيته، لابد أنه سيفعل إنْ عاجلاً أم آجلاً .. لن يبقى مُضمَّخاً بعطر الخيانة، لتكن حياتك كما كنتِ تحلمين أن تكون بمعزل عنه، فإنْ عادَ عُدْتِ وإنْ أحجمَ بقيتِ في عالمك، أنتِ فنانة تشكيلية فلماذا هجرتِ الألوانَ واكتفيتِ باللون الأسود ؟ ارجعي إلى مرسمك وألوانك ومعارضك، لماذا استكنتِ لعالمه المقفل على رائحة الخيانة ؟


دفعتْ للبائع ثمنَ ما ابتاعته من مواد وأدوات لتعود إلى فنها ولوحاتها، دلفتْ نحو بيتها وقد تسارعتْ نبضاتُ قلبها، كانت تحدّثُ نفسَها وتحثُّها على تنفيذ قرارها فوراً وقد تمتمتْ بصوتٍ خفيض : فليعلمْ ابنُ أبيه أنني ابنةُ أمي، لن أرضخَ له بعد اليوم .


دخلت غرفتها، أعدَّتْ ما يلزم للبدء برسم لوحتها الأولى بعد انقطاع طويل، ارتجفت يدها فور ملامستها للفرشاة، تصبَّبتْ عرقاً، داهمها إحساسٌ بالخجل من الألوان التي صرختْ مُحذّرةً اللونَ الأسود من الاقتراب منها، كانت صرختهم محرضاً لها على الابتسام لموقف شدَّ من عزيمتها فسارعت بحمل أنبوبة اللون الأسود وتنحيته جانباً لتحرر عقدة ارتسمتْ على بقية الألوان فبادلتها الابتسامة وأصبحت طيّعةً ليّنةً بين أصابع تخلَّصتْ من حالة تَشظٍ وأعادتْ بناء ما يجعلها حية ومبدعة.


تناهى إلى سمعها شخير زوجها يصل إلى غرفتها، استغربت عدم خروجه للسهر كعادته بعد كل شجار، أبعدت ظلّه عن ساحة خيالها، وضعت موسيقى " يانّي " في المسجّل وباشرت برسم لوحتها، كانت تفاصيل اللوحة مرسومة في مخيلتها، انتقلت من الواقعية إلى الرمزية، إذ لم يعد الواقع يعني لها في شيء بعدما استعادت روحها ما افتقدته طوال الفترة الماضية.


ساعات مرت لم تتوقف خلالها عن الرسم، كان الفجر يرسم لوحته على قماشة الكون، سمعت مغازلة خفيضة الصوت تبثها العصافير للحظات الفجر الرقيق، فاجأها دخول زوجها الغرفة وهي منهمكة في وضع الخط الأخير بلون الضمير، ارتعشت خوفاً إثر دخوله المفاجئ، دنا من لوحتها، عيناه تشيان بنقمة وحنق شديدين، حين رنا إلى اللوحة تمكّن من فك رموزها فهو الأعلم بما تحمله روحها.


ابتعد عنها وقبل أن يخرج من الباب اكتفى بقول كلمتين دون أن ينظر نحوها.