يسعدنا أن نقدم هنا مقتطفات (وليس انتقاءً) من رواية ثلاث تفاحات للكاتب محمد أبو معتوق، على أن نكملها في الاسبوع القادم إن شاء الله. 26-2-2010 تمت إضافة المقتطفات الأخيرة من رواية “ثلاث تفاحات” استمتعوا معنا.
أعزائنا، هذه المقتطفات لا تغني عن اقتناء الرواية وقرائتها والاستمتاع بقرائتها من الكتاب.
ونشكر الكاتب محمد أبو معتوق على سماحه لنا بنشر الرواية.

ثلاث تفاحات
إلى مهيار
محمد أبو معتوق
تنضيد وإخراج دار نون4
الغلاف: الفنان رائد خليل
هاتف 2121332
news@scs-net.org
المنشية القديمة ـ حلب ـ سوريا

قالت شهرزاد:
ـ سأحكي لك يا مولاي حكاية من هذا الزمان…
فقال شهريار مستغرباً: وهل بمقدور الناس في هذا الزمان أن تكون لهم حكايات..
فقالت شهرزاد: هذا ما ظننته أول الأمر يا مولاي, غير أنني وبعد تغيير بسيط في البدايات والنهايات وصلت إلى توليف نوع غريب من الحكايات ينتمي للماضي ولكنه ما زال يعيش في هذا الزمان. نوع أرجو أن يلقى لديك بعض القبول… فتبعد عن روحك ونفسك فكرة قتل النساء.
لأظل إلى جوارك حتى نهاية الزمان.
فهل أحكي لك يا مولاي.؟
فقال شهريار: احكِ يا شهرزاد.
فقالت شهرزاد: حكايتنا يا مولاي حدثت بعض فصولها في سجن النساء وأول فصولها قصة المرأة الزرقاء.
فسأل شهريار مستغرباً: امرأة زرقاء..؟ أنا أعرف بوجود سماء زرقاء وبحار زرقاء.. ولكنني لم أسمع بوجود امرأة زرقاء.
فأجابت شهرزاد: من طبائع الحكايات يا مولاي أنها تغير في الوقائع والأحوال والطباع وأحياناً تغير في الألوان والصفات لتتغير وتتعدد الدلالات.
فالمرأة الزرقاء كانت تعمل سجَّانة في سجن النساء يا مولاي وهي لم تحصل على زرقتها فجأة.. وإنما عبر الكثير من التحولات, فاللون الأبيض الذي كانت عليه قبل زواجها… ازداد بريقاً وفتنةً بسبب نظرات زوجها النهمة ولمسات كفيه والغبار الذي يحف به…
فالزوج يعمل في نحت الحجارة والصخور وتحويلها إلى تماثيل وكيانات مبصرة بعد أن كانت في الجبل كيانات عمياء.
وقد أبهج المرأة أن تلتمع بالبياض بسبب الغبار الذي تزخر به ثياب زوجها… حيث يحلو له أن ينفض ثيابه على جسدها.. بعد أن يزيل عنها الثياب…
وكانت عندما تبادره إلى العناق… يستوقف جسدها ونظراتها… ويبدأ بتلاوة الأمثال والنبوآت مثل الرجال القادمين من الجبال… ويظل على ذلك حتى تضيق الجدران بالحكمة.. وينحني الجسدان على بعضهما لاستكمال سوء الفهم والشهقات.
بعد القليل من الحب والكثير من الغبار انتفخت بطن المرأة التي لم تكن زرقاء وبدأت بوادر الحمل… تغامر بجسدها وملامحها…
عندما انتبه الزوج المملوء بالغبار إلى تحولات امرأته.. طلب منها التوقف عن العمل كسجَّانة والتفرع للحياة الجديدة التي تنمو داخلها. وعندما سألته الزوجة عن الأسباب.. وبأنها في السجن تستكمل حضورها وسلطتها وما يزيِّن لها البقاء.
قال لها الزوج: لا أريد لابني أن ينمو داخل سجنين. وعندما سألت الزوجة باستغراب عن السجنين اللذين ينمو فيهما جنينها قال الرجل:
البطن سجن.. وحيث تعملين سجن.. والجنين في أحشائك لم يرتكب جرماً ولا ذنباً… ليخضع للعقوبة مرتين..
عند ذلك بدأت المرأة تشعر بالريبة والحنين إلى النساء السجينات وبسب ذلك بدأت بالتحول إلى امرأة زرقاء… وبدأ جنينها بالذبول… رغم أمومتها الفائقة.. وميلها العظيم لإنجاب الأبناء والاحتفاظ بالأزواج.
…..
فأجابت السجَّانة باقتضاب: كان المولود ذكراً.. ولكنه بعد أن ولد ووضعته على صدري مات.
ولماذا مات؟ سألتها سجينة شابة متهمة بتسميم حماتها بعد أن أطلقت شهقة استغراب اختزلت فيها كل ما ينهك روحها من حنين إلى الرجال والأبناء.
فقالت السجَّانة: اسألن زوجي عن الأسباب… ولماذا ولدت ولداً ومات.
فاستدار الزوج بعد أن تأكد من موت ولده. وانحنى وأخرج محفظة ثيابه التي بدت لزوجته وكأنه أعدها من زمان.
وبدأ يملؤها بالثياب والدروب البعيدة التي تبعده عن المكان والأحزان وعندما شاهدت الزوجة أفعال زوجها الغريبة سألته:
ـ لماذا تحاول الهرب… ونحن لم ندفن ولدنا بعد.. حاول أن تظل معي عدّة أيام لأتمكن من إدراك الأسباب.
ـ عندها أغلق الرجل محفظة الثياب ومضى بها إلى الهواء.
ـ حين سمعت الزوجة صوت غياب الرجل وارتطام الباب… امتلأت بالزرقة الشفيفة… التي كادت أن تضاهي بها السماء. وكان معها بعض الحق فمادامت السماء قد أخذت ابنها منها.
ـ كانت السجينات.. وبسبب القضبان والجدران.. وابتعادهن الفادح عن الرجال… يشعرهن بالبلاهة والاحتقان… ويصبن بالذبول وتعبر أيامهن أمام أعينهن دون معنى ودون أخيلة ومسرّات.
أما المحظوظة منهن فهي التي تتم دعوتها فجأة لمقابلة ضابط في إدارة السجن… أو حارس مناوب… أودى به السهر وجور الزمان. وعندما تعود السجينة من المقابلة تحاصرها السجينات بالأسئلة والغمزات… عندها تضطر السجينة للمبالغات… والحديث عن أحوال ووضعيات فيها لهاث واحتدام…
……
ـ تقول السجينة المتهمة بالقتل: لابد وأن أحسن الرجال هم المحكومون بالإعدام.. وأحسن ما فيهم أيامهم الأخيرة.. ليت واحداً منهم يأخذني إلى ذراعيه ليعلمني في آخر ساعاته كيف أحب الحياة.
……..
بعد أن تم الأمر.. أصدرت إدارة السجن تعاليم مشددة منعت فيها دعوة السجينات في الليالي الطويلة.. لمراجعة الضباط المناوبين حتى ولو كانت الدعوة تتم للمصلحة العامة… ومناقشة بعض المتغيرات. وفي مقدمتها انقطاع الكهرباء.
وهكذا وبسبب تشدد إدارة السجن في منع هذا اللون الغامض من اللقاءات… انتشرت العتمة في كل مكان… وتماثلت أحزان ومخاوف السجينات… وبعد مدة من التماوت والإعياء وانقطاع الدعوات… نهضت السجينة التي برّحها الحنين للزوج والأولاد الصغار وصاحت بصوت يشبه الزلزال.
ـ إذا لم يحضر الرجال اللئام… الذين لا طعم للحياة دونهم. فليحضر شيء من آثارهم.
…..
…..
تقول الأم دامعة الإشارات والكلمات: لقد ارتكبت ابنتي الخطيئة.. وحملت.. وكبر همها وكَبُرت بطنها معها.
يسأل مدير السجن مستوضحاً: الأم تحاول ابنتك إسقاط الجنين اللعين.
ترد الفتاة بانفعال: الجنين ليس لعيناً… ليس لعيناً.. ثم تتداخل في البكاء.. وما تلبث أن تشعر بوخزه فتصرخ.. آه… وتشير إلى موضع في بطنها وتضحك وتقول.. إنه يرفس.. إنه يرفس.
تقول الأم: رغم المحاولات الكثيرة لإسقاطه مازال يرفس… يبدو أن الأبناء الذين يلدون دون آباء أكثر تمسكاً بالحياة.
………
ـ لو أن الحمل جاء بعد زواج مشروع. كما تحمل معظم النساء… لسقط الحمل إذا حاولت القفز من فوق علبة كبريت. فلماذا تحاول معي أيها السلم الجبان.
………
يقول للأم: الحمد لله على سلامتها… كانت سقطتها قوية… وأرجو أن لا يؤثر ذلك على حياة الجنين…
ـ تسأل الأم: أي جنين.
ـ ألا تعرفين بأن ابنتك حامل.
ـ ابنتي حامل؟… ولكنها… غير…؟
ـ أنا آسف… ربما أخطأت في التشخيص.
ـ هل صحيح ما يقوله الطبيب.
تسيل قطرة ماء على طرف وجه الفتاة الممددة.. وهي تتأمل الجبس الأبيض الذي يغطي الساق. دون أن تقدر على القول.. بأن الساق المغطاة بالجبس والساق الأخرى خذلتاها وانفتحتا رغماً عنها للغريب.
……….
ثم يُسمع في الجوار صوت صرخة.. أو شهقة… توحي بأن الجار وزوجته في حالة هيام.
فتضحك الأخوات الثلاث.
وتقول الأخت الصغرى وهي في العشرين:
ـ يبدو أن جارنا يصب على رأس زوجته سطلَ ماء.
عندها تلقي الأختان نحوها الوسائد فتسقط على السرير مغرَّقة بالهرج والمرج والضحكات.
ثم ينفتح باب الغرفة.. وتدخل الأم.. وتصيح:
ـ يكفي… وأعددن أنفسكن… ستأتينا في المساء نساء خاطبات.
……
وكانت الزوجة في حالة هياج. وقد تشعث شعرها وملامحها، بسبب لحظات الحب… التي اقترفتها مع زوجها.
وعندما أتما ذلك… تفرغا للغضب.
قال الجار: منذ قليل كنا في حالة انسجام فما الذي جرى.
أجابت الزوجة: أُحسك لست معي… في كل مرّة نكون فيها على السرير أحسك تفكر بامرأة سواي.
ـ وكيف تعرفين… هل تشقين رأسي وتتغلغلين إلى خلاياي.
ـ ألا توجد خلاياك سوى في رأسك. أستطيع بلمسة واحدة أن أقرأ روحك وخلجاتك وتاريخ نفسك. أنت تخونني حتى عندما تكون معي.
ـ مادمت خائناً في نظرك… فعلي أن أكون خائناً في نظر نفسي أولاً.
ـ ما الذي تقصد.؟
ـ نساء مِثْلُكِ يدفعون الأئمة والقديسين للخيانة… فابتعدي عني…
وهكذا وبحالة من الانفعال… يدفع الرجل زوجته عنه فتقع على الأرض… ثم يتركها ويمضي إلى الباب وهو يحلم بالخطيئة وكأنها الملاذ الآمن الذي تنهض به أحلام الرجال.
………….
ثم قالت الصغرى للكبرى: أنت تقفين في وجه زواجنا… فأقنعي أمنا بالموافقة على خطوبة من تطلب منا للزواج.. دون الالتزام بقانون الأعمار.. فالخاطبات ينتبهن للصغيرات والجميلات… وبذلك نكون نحن المطلوبات والمرغوبات وليس أنتِ… وأيدتها الوسطى في ذلك يا مولاي… لذلك مالت الكبرى واستندت إلى الجدار بعد أن شعرت بأن أختيها على حق, فعندما تصل الأخت الكبرى إلى حافة الثلاثين دون زواج تصير أقرب إلى العنوسة وتشكل رغماً عنها سداً منيعاً بين أختيها والزواج.
……….
عريس الوسطى شاب متشدد الملامح والصفات وكان من شروطه الكبرى قبل الزواج… أن ترتدي الزوجة جلباباً أسود وتغطي كفيها بالكفوف السوداء وكأنها تعيش طوال أيامها مجلس عزاء.
وقد تمت الموافقة على شروطه… وكأنها منحة من السماء…
………
تقول الكبرى: في الزواج لك خصم واحد هو زوجك… أما في العنوسة فخصومك كل الناس. فاصبري واحتملي.. وحدقي في المرآة, وتحديها وأكثري من التحديق لتذوب البراقع السوداء وتري نفسك وقد امتلأت بالأنوثة والجمال.
ـ أحياناً ونحن على السرير… يطلب زوجي مني أن أغمض عيني… حتى لا أحس بأنني شريكته. عندها أحس بأنني أتعرض لعملية اغتصاب.
فأصاب بالجفاف والتصلب مثل تمثال… ولا أجرؤ على المتابعة والانفعال.
ـ لا أعرف ماذا أقول… تقول الكبرى: ربما يفعل الجميع ذلك… وأنت لست بذلك نادرة المثال.
……….
ـ معكِ حق, أنتِ تأتين كل يوم… وتتركين زوجك لأمه.
ـ الزواج يصبح أجمل بالفراق…
ثم دمعت عينا الصغرى… وتابعت الكلام.
ـ زوجي لا يلتفت سوى لأمه… لذلك أحاول إذلاله صباح مساء وعندما أخبره بأنني سأزور أهلي… يصاب بفرحة غامرة ويهرع رغم رجله المصابة ليفتح لي الباب.
مرات كثيرة رغبت أن يمنعني من الذهاب.. لكنه لا يفعل.. فنظرات أمه له بالمرصاد.
خلال الحديث بين الأخوات… تعالت أصوات الرجل وزوجته الساكنين خلف الجدار.
هذا ما كان من الأخوات الثلاث وقصتهن مع أختهن الكبرى يا مولاي فهل أحدثك عن الزنزانة والسجينة التي سرقت الصندوق الرنان.؟

 

ـ حدثيني يا شهرزاد..
حين عبرت السجَّانة الزرقاء قرب قضبان الزنزانة توقفت وطلبت من السجينة السارقة أن تلحق بها بعد أن فتحت الباب, فاستجابت السجينة لها ومضت معها.
وفي الطريق سألتها عن الأسباب..
قالت السجَّانة: زيارة.
عندما وصلتا إلى الحاجز المعدني المؤلف من شبك ضئيل الفتحات لا يسمح سوى بمرور رؤوس الأصابع والأحزان… ويفصل بين عالمين متباعدين.. عالم الخطيئة.. وعالم الحرية والهواء.
وجدت أخاها الوحيد بانتظارها خلف الجدار وإلى جواره القس وبعد أصابع متشابكة الرؤوس بمودة… لإكمال تشابك الأسياخ المعدنية المتقاطعة التي تشكل الحاجز والجدار.
قال الأخ الوحيد: لم أكن أعرف أن دخولك السجن.. سيدفع بي للجنون والانهيار.
ـ كيف هي حال أمي..؟
ـ ماتت..
ـ ماذا تقول..؟ لقد فعلت ما فعلت حتى لا تموت.. فما الذي حصل في غيابي..؟
ـ يبدو أن ذهابك للسجن عجّل في موتها.
ـ إذا كانت تحبني كما تقول كان عليها… أن تؤجل موتها حتى أخرج وأراها..
********
هل كان ممكناً لها… أن تقول لهنَّ بأنها كانت تعمل أمينة صندوق وبأن صوت الرنين الذي يصدره صندوق النقود وملامسة حواف المعادن الملساء تثيرها وتشوش انتباهها… فتخطئ في العد… لذلك تضطر أن تعد أزرارها… وتتساءل عن الزمان الذي ستمتد فيه يد تحبها لتعبث بأزرار قميصها وصندوق أسرارها… لتطلق تفاحتي وجدها خارج الحصار.
****
وعندما انفردت بالشاب واستسلمت له… أحست بأنها كائن حي.. من حق ملامحه وانفعالاته أن تتشكل خارج الأرقام والأوراق ورنين الصناديق في الفتح والإغلاق.
هل كان ممكناًً أن تقول… بأنها انتظرت منه كلمة أو إشارة يتحدث فيها عن الحب.. أو الخطوبة أو الزواج ولكنه لم يفعل.
عندها بدأ صوت الرنين يداهمها وهي في أعذب أوقاتها…
***
وفي أوقات الصمت والذهول.. كانت الخشية الوحيدة التي تنتابها هي أن تعرف أمها أن ابنتها سرقت ودخلت السجن من أجلها.. عند ذلك من يضمن ألا تضطرب الأم وتتراجع صحتها, وتتوقف شرايينها الجديدة عن قبول أضحيتها.
****
قصة الجار الذي خلف الجدار
هذا ما كان من أمر الزنزانة والسجَّانة والسجينة اللصة يا مولاي أما ما كان من أمر الأخت الكبرى التي تعد نفسها لانتظار الخاطبات ليطرقن عليها الباب…
فإن أصداء الصرخات والحوارات الغاضبة بين الزوج والزوجة خلف الجدار كانت تقلقها, لذلك انتشرت الأصوات الغاضبة ونشرت فتنتها على ما يجاورها من أحياء, ولأن الابنة الكبرى لم يكن لها ما يؤازرها سوى وحدتها وميلها للصمت والانتباه فقد بدأ الصراخ يشكل لها نوعاً من الإغراء والعزاء.
*****
وبدأت المشاعر المتباينة تغامر بالمحبين… وأخذ كل منهما من خلال اللقاء الدائم الذي تحقق بفعل الزواج.. يشكل جداراً يخصه ليتوارى خلفه بعيداً عن الأنظار.
ـ قالت المرأة من خلف جدارها… وقد ارتدت ثياباً توقظ الفتنة النائمة في الأرض… وتدفع الرجل القابع خلف جوعه للدوار.
ـ الزواج وحدة بين كائنين… وقد استطعت من خلال صمتك وتجاهلك… أن تدفعني لوحدة لا تطاق…
لقد أحببتني قبل الزواج أكثر مما أرغب وأحتمل… وبعد الزواج صرت أحبك أكثر مما أرغب وأحتمل.. فما هي الأسباب..؟
*******
فصرخت الزوجة: بعد الزواج لا ضرورة للإخوة والأخوات والأمهات. وعندما يبرحك الشوق إلى أمك.. اذهب إليها… لتكتحل عيناها برؤياك.
عندها غامت عينا الزوج ولم يعد قادراً على رؤية زوجته حتى ولو وقفت أمام التلفاز.
وانتشر الصمت… وتضاءل الكلام.. واستسلم الرجل للباب وصار كثير الشرود والغياب.. ولم يعد التواصل بين الأجساد والزوجات المحبات يتم سوى بالصراخ, مما أشعل مخيلة الأخت الكبرى ودفعها للانتباه.

حكاية التفاحات الثلاث
قالت شهرزاد المستلقية بغنج ودلال أمام شهريار وأمامها صحن خزفي بديع الألوان وقد امتلأ عن آخره بالتفاح…
… إذا كانت حواء الجميلة في الجنة قد وقعت في الغواية بسبب تفاحة واحدة… فما الذي تستطيع فتاة وحيدة أن تفعله إذا داهمتها ثلاث تفاحات يا مولاي..؟
فسأل شهريار متعجباً: وكيف كان ذلك يا شهرزاد.. وكيف تستطيع فتاة وحيدة أن تتماسك أمام ثلاث تفاحات.
فقالت شهرزاد: بينما كانت الأخت الكبرى صاعدة درج البناية يا مولاي فوجئت بتفاحة تتدحرج على الدرج… فتوقفت وتأملت سقوطها وبريقها وأمسكتها حتى لا تكمل السقوط وتصاب بالأضرار, غير أن تفاحة أخرى تبعتها, فعاجلتها باليد الثانية وأمسكتها وقد اضطرت من أجل ذلك أن تلقي بما كانت تمسكه من أغراض. وخوفاً على التفاحتين من الفرار… قربتهما من صدرها الباهر وحلمتيها المفعمتين بالظمأ والإبهار… ووضعت فوق كل نهد تفاحة وضغطت حتى استغاثت التفاحتان من الفتنة وأصيبتا بالدوار.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد… لكان الذي جرى ما جرى. ولكن تفاحة ثالثة نزلت… وأصيبت الأدراج بالإثارة والدوار, وعندما لمحت الأخت الكبرى التفاحة الثالثة… اضطربت واحتارت, فعندما تكون في كل يد تفاحة… فأين ستكون التفاحة الثالثة والصدر عامر والنفس تواقة.
ومتابعة السقوط حتى نهاية الأدراج هو المصير الذي لا يلتفت للضرورات.
وأمام مثل هذا السقوط المفاجئ للتفاحة الثالثة… كان لابد للأخت الكبرى أن تتصرف… فلقد خيل لها لوهلة… أن التفاحة الثالثة تشبهها وأن تركها للسقوط المرير والأدراج سيحزنها.
لذلك تصرفت بغرائز عظيمة… ونقلت التفاحة التي تربعت على النهد الأيسر إلى النهد الأيمن… ومدت يدها الفارغة والتقطت التفاحة الثالثة ووضعتها بانفعال على النهد الأيسر المجاور للهاثها… وهكذا أصبحت على صدرها يا مولاي ثلاث تفاحات كأنما هبطن عليها من السماء.
وفي فترة الحيرة هذه.. وفترة التردد في فهم الأسباب.
نزل الجار الذي حفظت الأخت الكبرى صرخاته ونبراته ومعه كيس مثقوب… ورغبة جارفة في القبض على التفاحات.
وعندما وصل وصار وجهاً لوجه مع التفاحات.. والفتاة التي تمسكها كما تفعل شجرة تفاح.
أحس بالارتباك… ونظر إلى الفتاة نظرة فيها أسئلة ودلالات.
وقد كانت حيرة… وصمت… وأحست الفتاة بالمعضلة, هل تمنح الإذن لنهديها بالسقوط أم تمنح الإذن للتفاحات.
وهل يقدر الكيس المثقوب أن يحمل الأمانة… ويصعد بها الأدراج.
******
وهكذا يا مولاي تدخَّل الماء مرة أخرى, ولكن ليس ليصنع الفراق.
وبعد أن أتم الرجل فعلته وخرج مُغرَّق الوجه والثياب بالماء والدخان رأى زوجته أمامه وقد خرج لتوه من بيت الجيران… ولكي يَحُول بينها وبين سوء الفهم الذي تجيده الزوجات, حدثها عن النيران ودوره في إخمادها, ولكنها دفعته وصرخت فيه: والنيران التي تشتعل في داخلي, من يطفئها..؟
********
ـ عندما جاءت الأختان لزيارة أختهما الكبرى.
قالت الأم: أختكما ذهبت لتشتري التفاح وتأخرت أكثر من المعتاد فأحست الأختان بالمعضلة, ومالتا للصمت والتحديق في اللهب الذي يتصاعد من فناجين القهوة.
وعندما حدثتهما الأم عن الحريق الذي كاد أن يلتهم البيت..
مالت الأختان للشك بدوافع الجار في إخماد النيران.
وهناك في أماكن مخصصة لاجتماع العشاق… الذين تلتمع أسنانهم ومواجدهم جوعاً للتفاح.
جلسا معاً… الأخت الكبرى والجار… وأخذا يشربان القهوة بصمت وارتباك.
ثم قالت الأخت الكبرى: زوجتك جميلة.. فلماذا لا تصمتان طويلاً وعميقاً, لتتمكنا من إنجاب الأطفال..؟
قال الجار: وهل وصلتك الأصوات..؟
*****
فأحضر مطرقة… وأمسك مسماراً, وغرسه حتى آخره في الجدار, وعندما لم يجد لوحة أو تميمة ليعلقها عليه… علق جوعه ووحشته, فتولدت في الطرف الآخر أنواع عجيبة من الأصداء لا تتوالد إلا إذا حصل اضطراب حاد في حركة الكواكب والأجرام.. وبسبب ذلك شعرت الأخت الكبرى بالقلق وهرعت إلى الباب… بعد أن شعرت ببوادر انهيار.
وأحس الجار بمثل ذلك وهرعا معاً إلى البابين.. وهكذا وبسبب قوة حدسهما حدث اللقاء.
قال الرجل: أنا وحدي.. فهل أنتِ وحدكِ..؟
قالت الفتاة: لم أكن في ساعة أو يوم سوى وحدي..
قال: هل أدخل بيتكم ما دمتِ وحيدة..؟
**********
في المسمار الأخير الذي غرسه الجار.. وأدمى بسبب الانفعال والطرق الجائر أصابعه ورؤياه.. ألقى بالمطرقة وهرع إلى الباب المجاور وطرقه, وعندما فتحت الأخت الكبرى وشاهدت الدم على أصابع الجار, أحست بالرعدة… وسألته عن الأسباب…
فجرها من صدرها إلى بيته وأغلق الباب…
*********
ـ المعروف يا شهرزاد, أن الرجل عندما يهرب من زوجته.. فإن المرأة المتروكة وحدها… تقعد في ظلال خيبتها وترثي حظها… وغدر الزمان والرجال.
أما عندما تهرب المرأة من الرجل… فسيقيم الرجل الدنيا ويقعدها بحثاً عن المرأة… ليس من أجل اللقاء بها ثانية وإنما من أجل الانتقام, ليس منها وحدها وإنما من جميع النساء.
*****
لذلك سألت الزوجة زوجها عن الأسباب.
ـ فأخبرها بأن الصاغة وباعة المجوهرات… يخفون اللآلئ والجواهر الثمينة في الخزائن المنيعة ويغلقون عليها بالأقفال.. حتى لا يطمع بها الطامعون واللصوص, وبأنها جوهرته الغالية التي يخشى عليها هبوب الهواء.
فقالت: الجواهر أشياء ميتة, والبشر أروح حية.. فإذا سجنت الأرواح تذبل وتموت, وإذا سجنت الأشياء الميتة لا تموت… لأنه سبق لها وماتت, وليس لأحد الحق أن يعامل الأحياء كالأموات.
فقال: من يحب, يضحي من أجل المحبوب.
قالت: والمحبوب بأي شيء يضحي…؟ بشراء الأقفال..
******
وفي بيت أخيها استقبلت استقبالاً محيراً… وقد تقاطع هذا الاستقبال مع حيرتها عندما ركبت الحافلة التي أقلتها إلى دمشق باتجاه أخيها.
ـ لقد أغواها أن تتأمل الخضرة الهائلة… والتلال القصية والمنحدرات القريبة والغريبة, غير أن الذي أدهشها ثم أفرحها… ذلك الإحساس الذي انتابها… عندما تأملت الطريق الإسفلتي الذي يهرب من تحت عجلات الحافلة التي تقلها.. لقد شعرت بأن الطريق رغم طوله وجبروته… هارب مثلها.
زوجة الأخ الذي نذر قلمه وحلمه لتحرير النساء على أوراق الصحيفة المحلية… استقبلت زوجة أخيها استقبالاً حافلاً.
********
أقسم الأخ بالأيمان المغلظة… بأنه سيكتب مقالاً مدوياً, يقتص فيه من الرجال المستبدين والأبواب الموصدة, ليعيد للنساء السجينات ما فقدنه من أنوثة وحرية.
وبأن زوج أخته اللعين لن يتمكن مهما فعل… من ملامسة ظفر أخته الهاربة مرّة ثانية.
لذلك مرَّت البدايات بسهولة ويسر, غير أن الأعباء والأعمال تكاثرت, وتكاثرت إلى جوارها الملاحظات العنيفة التي كانت زوجة الأخ تطلقها في وجه أخت الزوج الواجمة.
وبسبب الأعمال الكثيرة والتعب المستمر, بدأت الكؤوس والصحون تتساقط من يد أخت الزوج, وبدأ الرماد يغزو ملامحها ونقاء بشرتها ومصيرها…
*****
وعندما فتحت عينيها رأت قطيعاً من الماعز يرعى حولها, وإلى جوارها… رأت فتى يعمل في الرعي… وقد تنبه الراعي لوحدتها وجوعها وظمأها… فقدم لها وعاءً معدنياً مملوءاً بالحليب والنوايا الطيبة, فحملت الوعاء بكفين مرتعشتين… وبدأت تنهب السائل الأبيض الذي أيقظ جوعها… وبسبب الظمأ الشديد ملأت قطرات الحليب فمها وسالت على صدرها… فنفرت حلمتاها إلى الله عندما تقاطعتا مع السائل الباهر ونظرات الراعي الذي أفزعه جمالها وظمأها… والبرق الذي يطلقه صدرها…
********
سأل الطبيب السائق عندما كان السائق يقوم بتغيير الدولاب:
ـ لو كُنتَ مكانَ زوجَتَكَ وكُنتَ محاطاً بالأبواب والأقفال, أما كنت هربت..
ـ وهل يجوز يا سيدي حجز الرجال.. المرأة خلقت للبيت والأبواب, والرجال للطرقات.
عندها ابتسم الطبيب… ابتسامة مملوءة بالأبواب المفتوحة والنساء الفرحات وقد انحاز إلى خصلاتهن الهواء.
ثم صعدا السيارة يا مولاي, وانتشر خلفهما خط غامض من الدخان.

حكاية طبيب السجن… وابنته التي تركته قبل الأوان
ثم قالت شهرزاد:
ـ هل أحكي لك يا ملك الزمان حكاية طبيب السجن وابنته..؟
فقال شهريار:
ـ ألن تكملي لي حكاية الأخت الكبرى وتفاحاتها الثلاث..؟
ـ فقالت شهرزاد: بعض الحكايات يا مولاي لا يكتمل معناها إذا لم تتقاطع مع حكايات سواها… وليس أحب إلى قلبي وأجلب للأحزان… من الحديث عن الأخت الكبرى بعد أن تساقطت أحلامها أسرع من سقوطك التفاحات.
ـ ما دام الأمر كذلك.. حدثينا عن الطبيب يا شهرزاد.
قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي البعيد, أن ابنة الطبيب الوحيدة كانت على جمال ورفعة واعتدال.
وقد أحبت صديقاً لها في الجامعة… بعد أن تبادلت معه الحديث واستعانت به على فهم المحاضرات…
وكانا معاً منشغلين.
ابنة الطبيب منشغلة بالفتى الجامعي الشاب, والفتى الجامعي منشغل بالتفوق وجمع العلامات.
وعندما ظهرت النتائج في نهاية عام التخرج, نجح الفتى بامتياز ورسبت الفتاة بسبب حبها.. بامتياز.
***
فقال شهريار: أنا أعرف أن اليتم يصيب الأبناء إذا مات أحد الآباء أو الأمهات.
فأجابت شهرزاد:
ـ إن أصعب اليتم وأقساه هو ما يصيب الآباء والأمهات عند فقد الأبناء.
*******
فوقعت الأم على قدمي ابنتها كأنما لتطلب منها الغفران… ثم سألتها عن الأسباب, فأمسكت البنت الكبرى يد أمها ووضعتها على بطنها.. فأحست ببوادر حركة.
فارتدت إلى الفزع والعادات المتبعة… وصفعت ابنتها صفعة أودت بالأم وأوقعتها في البكاء, قبل أن تودي الصفعة بالفتاة.
*******
وعندما وصلتا إلى نقطة لا يمكن الركون إليها ومبارحتها… سألت الأم زوجة الجار عن زوجها, وأين يكون..؟
فأخبرتها الزوجة بأن زوجها غائب عن الأنظار, وأن الحب الذي يربطهما ببعض يفوق الوصف ويخلب الألباب… وبأن زوجها وبسبب رغبته القوية في حماية أسرته وتدعيم أركانها سافر إلى بلاد الخليج ليعود بالكنز وأحسن الذكريات..
ثم بكت الزوجة شوقاً لزوجها… وعندما أتمّت مسح عينيها من بقايا الحب والاحتقان..
*******
ـ حاولت ادعاء ذلك حتى لا أكون بين المحبين والكارهين, موضع استهانة وشماتة وأسئلة كثيرة لا تحتملها النساء, فاكتمي خبري عن الناس كما تفعلين مع ابنة خاطئة.
عند ذلك انتزعت الأم الملتاعة الرسالة التي أرسلها الجار الهارب إلى زوجته مع قسيمة الطلاق لتتعرف من خلالها على عنوان الجار العاشق الذي انتزع منها طمأنينتها وحوّل أبناءها وبناتها إلى أعداء.
وعندما صار العنوان في يدها.. عادت الأم إلى ابنتها كما تعود الجيوش التي طاردت طويلاً جيوش أعدائها ثم عادت هذه الجيوش دون أن تلمح جيش الأعداء في مكان, وهكذا أحس الجميع… بأنهم خسروا الرهان.
*****
فالقوانين لا تحاسب المرأة لأنها ارتكبت الخطيئة فحسب. وإنما لأنها عبثت بمصير الأبناء الذين سيخرجون إلى العالم… دون ملامح وأسماء ودون ذنب.
عند ذلك قفزت الأم إلى عنق ابنة أخيها التي تعمل في المحاماة وعانقتها وقالت جملتها الهائلة:
ـ حياة في السجن خلف القضبان.. أحسن عند الله وعندي من قتل تفرضه المخاوف والعادات… ويقوم به أبناء جاهلون وقساة, لم يتوقفوا لبرهة عن ارتكاب الخطيئة والإيقاع بالأرض والسماء.
******
خلال ذلك عبر أحد الإخوة في الجوار ورأى الناس وقد اجتمعوا في الطريق وأشاروا إلى جهة الحريق, فصعد الأدراج قافزاً مثل الغزال, وعندما وصل… وجد أخته مكبلة بالقيود وبوادر بطنها العظيم بارزة للأمام… فاستغرب مرتين.
مرّة لأن أخته بدت له مثل امرأة حامل… وهي لم تتزوج بعد… ومرّة لأن أخته اعترفت بحرق باب بيت الجيران دون أن تفصح عن الدوافع والأسباب.
لذلك مضى إلى أمه وهزّها من كتفيها وسألها ما الذي جرى.
فأخبرته الأم بأنها مثله لا تعرف شيئاً… وبأن الأخت الكبرى كانت تدخل غرفتها وتغلق عليها الباب… ولا تجيب على أي سؤال.
ـ وعن بطن أخته البارز ألح الابن الأصغر بالسؤال.
فقالت الأم: لعلها تعرضت في ليلتها الفائتة لبعض البرد, أو أكثرت من تناول السوائل والطعام… فانتفخت بطنها وهذا أمر يحصل مع كل العذراوات.
فلم يقتنع الابن الأصغر بالكلام, ومضى إلى إخوته وزودهم بالأخبار, فأصيبوا بالذهول… وبحثوا عن القرائن… وجمع المعلومات بسبب عملهم في أجهزة الأمن.
*********
ـ فصاحت الأم: ولماذا الأشغال الشاقة يا سيدي… والأمر لا يتعدى إحراق باب…؟
فقال القاضي: الحمل والولادة والإرضاع في السجن من أشق الأعمال, وأعظمها في هذا الزمان, ولو لم تكوني كذلك لضاعفت مدة الحبس… لأن إحراق الباب يعتبر شروعاً في القتل, وشروعاً في الاقتحام وفك الأقفال. فهل كان في قصدك بعض هذا أم أنك بعد أن أعياكِ الحمل قررتِ القصاص من الباب والرجال..؟
فبكت الأخت الكبرى… بعد أعيتها حركات الجنين وأنبل الرفسات.
**************
أما ما كان من أمر النسوة السجينات في القاووش, فكن وبسبب تشدد الإدارة في منع اللقاءات الليلية بين الضباط المناوبين والسجينات الجميلات, يجأرن بالدعاء.
ـ اللهم إن كنت منعت عنا الرجال اللئام بسبب أفعالنا… فأرسل إلينا شيئاً من آثار الرجال وليكن هذا الأثر جنيناً في بطن امرأة حامل لنتذكر أبناءنا… ونتذكر بعض أفعال الرجال, التي ترفع المرأة للسماء ثم تخسف بها للهلاك.
بعد أن أتمت السجينات الدعوات, دخلت الأخت الكبرى إلى الزنزانة تسبقها بطنها… دخلت ببشرتها ووحدتها وأحزانها… فأضاءت المكان… دخلت فجأة كأنما استجاب الله للسجينات الدعاء.
وبسبب الدهشة والمفاجأة تساقطت النساء السجينات إلى جوار بطن الأخت الكبرى… ووقعن في البكاء….
*******
عندما استكملت الأخت الكبرى تمددها… تدافعت السجينات حولها… وبدان يتأملن بطنها… ثم تجرأت بعض الأصابع وامتدت أكثر من سواها لتلامس البطن وموضع الرفسات, وقد بالغت إحدى السجينات بالأمر ووضعت وجهها على بطن الأخت الكبرى لتستمع وتحس بالحركة… وتتداخل بقوة فيها كأنما تتداخل بقوة الحياة… الحياة التي تتشكل في العتمة..
داخل زنزانة البطن..
وداخل زنزانة السجن…
*****
وبعد تأمل وتلوّن.. فقدت السجَّانة القدرة على لجم رغباتها وعناصرها… وأحبَّت أن تنحني لتلامس هذا الشيء الباهر الذي يتشكل في البطن. غير أن السجينة التي نذرت نفسها للقيام بدور الأم… أمسكت يد السجَّانة ودفعتها قائلة:
ـ يد السجّانة سجن… فلا ترهقي الصغير فهو في محنة.
عند ذلك استعادت السجَّانة طبيعتها, وارتدت أصابع كفها بقوة كأنما لتتخلى عن طولها ومعتقدها وتتحول إلى كومة من حزن.
******
وها أنا أتمدد مملوؤة البطن.. بمياه الرجل والقليل من الذكريات, عند ذلك امتدت يد السجينة الأم إلى بطن الأخت الخاطئة كأنما لتمسح عنها الحزن وتقلب الزمان.
ثم قالت لها: لا تجزعي.. الحياة أكبر من هرب الرجال, وقسوتهم وهي أعظم من صبر النساء.. وحديثهن الطويل عن الغدر والوفاء.
… بعد صمت… سألت الفتاة الخاطئة الأم التي في الزنزانة:
ـ إن كنت مكاني هل تفعلين ما فعلت… أم ترمينني بحجر لتشجي به رأسي.
فقالت السجينة الأم: النساء في السجن أكثر تفهماً واغتفاراً من النساء خارج السجن.
ـ ألا تحدثيني عن السبب.
ـ الأسباب كثيرة, ولكنني لست حاضرة الذهن لأذكرها كلها.
ـ فهل تذكرين بعضها, لأحس بالأمان.
ـ غياب الحجارة والرجال عن الزنزانات… يدفع النساء الخاطئات لاستبعاد فكرة الرجم وإحلال الصفح والغفران محلها.
ـ فإن حضرت الحجارة والرجال… فمن يميل أكثر للرجم الرجال أم النساء..؟
ـ النساء يملن أكثر. قالت السجينة الأم.
ـ ولماذا يملن..؟
ـ ليكرسن سلطة الرجال.
ـ وهل نصير مذنبات إن كنّا أكثر حباً وتعلقاً بالرجال..؟
ـ الذنب لا يقع على من هو أكثر حباً… الذنب ذنب صاحب الحب القليل, لذلك يمتلئ العالم بالدماء.
******
ـ هل تعتقدين أن السجن أرحم من القتل..؟
ـ لو أنهم خارج السجن يكتفون بقتلي لما حزنت… لكن أن يقتلوا الطفل معي فذلك أقسى من أي سجن.
ثم شهقت السجينة الحامل شهقتها الأولى وشهقت بطنها معها… وامتلأت الزنزانة بالصمت وكانت أكثر السجينات حزناً ولوعة يا مولاي… السجينة المتهمة بالقتل, وحين ترددت في المكان كلمة القتل… انتبه شهريار وطلب من شهرزاد أن تحدثه عن قصة هذه السجينة التي ورد ذكرها أكثر من مرّة في الحكاية وما هي الأسباب التي دفعتها للقتل.
*********
فبعد أن أمعن الجميع بتناول الطعام… ودفعا الصديق للإسراف بالشرب… ذكراه بالمبلغ الذي اقترضه منهما… وذكراه بنكران الجميل والامتناع عن الدفع.
فانفعل الضيف… وامتلأ المكان بالغضب, وحصلت مشادة كاد الضيف أن ينتصر فيها… مما دفع أحد الإخوة لِطعنه بسكين في صدره, وكانت الأخت تتأمل وترتعش, وكان المطعون يمدّ يده نحو الأخت ويصيح: خلصيني من الموت..
عندها شعرت الأخت بالهول, وبدأت ترتعش نيابة عن الضيف الذي يحاول التشبث بالهواء حتى لا يداهمه الموت… ثم تهاوت الأخت على الأرض.
بعد أن أطلق الشريك المطعون آخر أنفاسه, تحوّل إلى جثة هامدة ليس بمقدورها سداد أي دين..
استيقظت الأخت على الأمر الغريب الذي حصل.. وشعرت بأن أخويها القاتلين إذا لبستهما تهمة القتل سيعدمان أو سيقضيا بقية عمرهما في السجن.
لذلك تأملت جثة الرجل الذي كادت أن تحب, فوجدتها جثة لا حياة فيها ولا نفع. عندها تحركت فيها غريزة الأخت وقررت أن تفتدي أخويها من السجن والموت.
غير أنهما وبعد أن سمعا منها خطتها, رفضا أن تقوم نيابة عنهما بدفع الثمن وحدها.
لكنها أصرت.. ورغبة منها في تنفيذ خطتها… مزقت أطراف ثوبها وخدشت وجهها وعنقها بأظافرها… فتبدت لمن يراها بأنها تعرضت لمحاولة اغتصاب..
وهكذا اقتيدت الأخت بدلاً من أخويها إلى السجن بعد أن اعترفت بأن صديق أخويها زارها في البيت وهي وحدها وحاول الاعتداء عليها, فدافعت عن نفسها… وطعنته في صدره وأردته.
******
• عندها وصلت السجَّانة إلى الباب وفتحته ودخلت… وقد حملت معها أكياساً وصناديقَ مملوءة بالثياب.. وعندما لمحتها السجينات… تنصرفن للزغاريد والهناهين والأغنيات.
• قالت السجينة الأم: هذا يوم سعد… لقد خرجت السجَّانة زرقاء من الحزن.. وعادت إلينا بيضاء.. بيضاء.. مثل فتاة عذراء لم يغضن بشرتها حنين أو حب…
• عندها قالت السجَّانة: لا تقولوا شيئاً عني… وانتبهوا للمخاض والطفل, ثم فردت صناديقها وأكياسها… فالتفتت إليها السجينات, ونسين الأم التي في حالة مخاض… وانشغلن بثياب الطفل عن الطفل… وعندما فرَدن قطع الثياب… تبادلن الشهقات مع كل قطعة وهن يصرخن.. الله… ويخرجن القطع الأخرى والثياب, ويكررن الصرخات.
• السجينة التي تركت طفلها لدى حماتها بعد أن اتهمت بمحاولة تسميمها, قالت:
ـ عندما حملت بولدي البكر «واقترب موعد الولادة» وعرفت حماتي بالأمر, رفضت أن تشتري الثياب الجديدة… وفتحت صندوقها الذي تدفن فيه ذكرياتها وثيابها.. وأخرجت منه الثياب القديمة وقالت: لا يكون الابن ابناً لأبيه إلا عندما يرتدي ثياب أبيه القديمة.. ويتقمص روحه وصفاته من خلال ثيابه.
ـ ومتى سنشتري لابننا الجديد ثياباً جديدة..؟ سألتها زوجة الابن الحامل..
ـ فقالت أم الزوج: من لا قديم له… لا ينفعه أي جديد.
********
لذلك عندما حضرت المحاكمة… طلبت من القاضي أن يحكمني مدّة تساوي مدّة بقاء أم زوجي على قيد الحياة… لأن السجن أحب إلي من الحياة معها في بيت واحد. وإلى جوار زوج مخلوق للأمهات وليس للزوجات. فضحك القاضي… ثم أعلن الأحكام بعد أن اعتذر عن عدم قدرته على معرفة المدّة التي ستظل فيها حماتي في عداد الأحياء.
بعدها انخرطت الزنزانة كلّها بالضحكات دون انتباه إلى الأخت الكبرى التي تغامر بها التقلصات… ورغبة الجنين في الخروج إلى الحياة..
هذا ما كان في الزنزانة يا مولاي…
أما ما كان من أمر الزوج الذي سافر إلى البلدان البعيدة هرباً من صراخ زوجته الأولى… وخوفاً من إخوة بنت الجيران الأشدَّاء ليَنفذَ بريشه ونفسه المثقلة بالحب والخيانات.
*****
وأنا راغبة.
وأنت راغب.
فهل نقتسم التفاحات.؟
أم تأخذها كلها وحدك… وتتركني لأنتظر قدوم غيركَ من الرجال.
وعندما لمح الرجل أحد العمال الهنود قادماً بالصناديق المملوءة بالتفاح, قال الرجل للمرأة بلهفة واستعجال: بل نقتسمها ونمضي.
وعندما وصلا إلى صناديق الدفع… حاول الرجل أن يدفع لكن المرأة منعته ودفعت.
وعندما سألها الرجل عن الأسباب قالت:
ـ المرأة تدفع أولاً, وبعدها يدفع الرجل طوال الأيام.
******
ثم صرخت الأخت الحاملة صرختها الثالثة.
وكانت أمها الحقيقية جالسة في البيت, وإلى جوارها ابنتاها الوسطى والصغرى وكن يتحدثن عن أختهن بلوعة وخوف… ويشرن إلى أن ما فعلته أختهن لا يمكن السكوت عنه… لأن زوج كل واحدة… قد عرف الأمر وهدد وتوعّد زوجته بالطلاق إن تجاهل الإخوة الأمر.
وكانت الأم على حزن هائل وانفعال وقلة صبر. ثم ترددت في روح الأم الحقيقية صرخة ابنتها في زنزانتها, فأحست الأم بالهول وصاحت: أختكما في حالة مخاض وولادة… ووضعها حرج وصعب.
قالت الصغرى: كيف عرفت..؟
قالت الوسطى: وهل شعرتِ بمثل هذا عندما ولدنا أولادنا نحن..؟
فصاحت الأم بصوت زلزل الأرض: أختكما في محنة لذلك سمعت وعرفت… ولو كنتما مثلها لسمعت… فاتركاني أذهب إليها لأعرف الأمر.
******
تردد في فزع الرجل وارتباكه الصوت الهائل الذي أطلقته الأخت الحامل في الزنزانة من بلده البعيد… فأحس الرجل بانتفاخ في عنقه وجحوظ في عينيه ورؤياه, وتذكر ابنة الجيران والمسامير… وقطرات الدم الشفيفة التي ملأت الجدران… وأحس بأن ولداً له لم يسمع عنه ولم يتعرفه يتعرض للاختناق. فصاح… هل يعقل أن يكون… هل يعقل…
ثم نهض من مكانه راكضاً إلى الباب… وظل في حالة لهاث وركض حتى وقع على الأرض… وعندما استعاد بعض يقظته تلمس جسده وروحه ولهاثه وتساءل عن الأسباب.
وهل يمكن للرؤيا أن تباغت أحداً في اليقظة دون أن تباغته في الأحلام. ثم تحامل على بعضه ووجده ومضى إلى المطار… فلم يجد طائرة متجهة إلى البلاد.
*********
خلال ذلك نزل الطبيب من الطرف غير المصاب لمقدمة السيارة وأنزل معه محفظته… وعندما عاين الوليد الجديد والدم… حمله على يد.. وأخرج المقص باليد الأخرى وقص الحبل السري.
…ثم ربط السرة وخلع قميصه ولف به الوليد وأعاده للأم… ثم سألها عن أحوالها… فابتسمت ثم شهقت وقد امتلأت روحها بالبكاء… ولم تجد شيئاً حولها يعينها على الصبر والحياة سوى أن تضم طفلها إلى صدرها…
بعد أن تمت الولادة بهذا الشكل الخلاّب… والسيارة مهشمة الواجهة وأمامها شجرة ممددة على الأرض مثل امرأة تعرضت للاغتصاب, وخلف السيارة باب مفتوح ودم وطبيب وطفل وبكاء.
عندما استدار الطبيب إلى الخلف…
وجد أمامه حشداً كبيراً من الناس…
فتأملهم الطبيب ووجد في أكفهم السكاكين والأذرع الممدودة والغضب وصرير الأسنان… وأحس وكأن في حشودهم إخوة الفتاة وقد التمعت في أكفهم السكاكين وفي أطراف عيونهم الرغبة بالثأر والقصاص.
فأحس الطبيب بأن الفتاة الخاطئة… غير مطلوبة من إخوتها وحدهم وإنما من جميع الناس عندها أخرج الطبيب مسدسه, وأطلق في الهواء المجاور لغضب الناس بعض الطلقات… فتراجع بعضهم وهرب بعضهم دون أن يهرب عنهم غضبهم.
ومن قلب الحشود بزغت امرأة ملتاعة… وصاحت إنها ابنتي. وركضت إلى السيارة.. فحاول الطبيب منعها.
فقالت: أنا أمها وهي أغلى وأجمل عندي من كل الأبناء.
فقال الطبيب: نحن عائدون للسجن.
قالت الأم: خذوني معها… فلو لم أكن أمها… ولو لم تكن طبائع الناس على هذا القدر من الرياء والقسوة وسوء الفهم… لما وقعت ابنتي في الإثم…
ثم صعدت إلى جوار ابنتها ومضت السيارة عائدة إلى الزنزانات.
… فقال شهريار: هل انتهت القصة عند هذا وحده يا شهرزاد, وظلت الفتاة التي ارتكبت الخطيئة طوال عمرها داخل الزنزانة لتمنع عن نفسها القتل.. والدماء..؟
***
قال شهريار: أرغب فأسمعيني يا شهرزاد.
انتهت
         لن تنته إلا إذا قرأتوها كاملة 
       تحيات عالم نوح