تغلغلت في روحك..
أبني مدينتي..
سكنايَ ..
وركن حنيني ـ
تتمةالمقتطفات من كتاب المأمون الجابري “هسيس الغياب” لعلها تثيركم لقراءة الكتاب كاملا.

-7-
تغلغلت في روحك..
أبني مدينتي..
سكنايَ
وركن حنيني
-8-
بالأمس, الأمس
جاء الكنار الأصفر, الطائر
على جناح
يملأ البعد.. صُداح
غناؤه, صوت الماضي
والموقد والطريق, وفنجان القهوة
والثلج, والمطر التشريني
-9-
كان غناء الكنار, مجيئه
فرحي المعطر بالنداء
رجعا لصدى الحكايات
والزمن العابر المختبئ في المكان
فهل يعودك كنار الحنين؟
يثير في أعطافك شجو الحلم الغارق
وعطف السنين
هل يدق الزمن السادر جدار المستحيل
تحديا للنسيان
عبر سجف الأيام
يدفع الصحو في الحنان؟
يزرع الغياب في تربة الحاضر
من جديد؟
((جمع الشخوص التي ترف من حولي كالأطياف, أدخلتها إلى صفحات الكتيب من رسائلها ورفقته في المكتبة بين ملايين الأطياف الغافية في الكتب الأخرى ضمن صفحاتها مسجونة بالأغلفة. وحين عدت إلى الكتيب بعد زمن يزفني الشوق إلى من فيه, انبعث الصوت الداخلي ثانية والطيف الذي غاب سابقاً متقهقراً أمام جمهرة الأطياف تلك لعدم تمكنه من الإنفراد بالمواقف تمكناً كافياً..))
تعود وتسألني عن أسعد, الإنسان الذي تقابلت وإياه فجأة في ساحة الفاتسلاف, كان لقاء مدهشاً غريباً في حدوثه, هل تحدث مثل هذه المصادفات بغرائبية غيبية لأسباب, أم أنها مسببة ونحب أن ننسبها إلى المجهول؟ نسقط عليها نوعاً من الحدوث الغيبي الواقع بقدرة علوية قدسية, فنتندر بحدوثه مظهرين انبهارنا به, ونسعد حين نرى ملامح الانبهار والاستغراب على وجوه الآخرين الذين نسرد عليهم ظروف وملابسات ما حدث؟. هكذا أقول, لقد التقيت أسعد دون سابق موعد في بلد غريب أحل فيه حديثاً منذ ما لا يزيد على ثلاثة أيام, ألتقيه بين آلاف, بل مئات الألوف من البشر الذاهبين الآيبين بجد ورصانة إلى أعمالهم أو عائدين منها وقد أرهقهم العمل سحابة يومهم المكود.
التقينا لقاء الأحبة, لقاء لأبناء الوطن, صرخت:
– أسعد..
وصرخ:
– عماد!!
وتعانقنا بحرارة, ثلاثاً, من اليمين قبلني, فأدرت له الخد الأيسر يقبلني وأبادله, ثم ينتقل ليطبع قبلة على كتفي, قبلة ثالثة على طريقة أهل الوادي, وادي العيون – أسعد من وادي العيون – ذهب في بعثة إلى تشيكوسلوفاكيا, تحديداً براغ أوبراها كما ينطقها التشيكيون, المعمل الذي يشتغل فيه متدرباً على تركيب وصيانة بعض المعدات والآلات, في أطراف المدينة, قال:
– سأعرفك بصديقتي((فيرونا)), وهو اسم مختصر عن فيرونيكا.
بعد أيام زرتها مع أسعد في منزلها الذي تقطن فيه مع والدتها, كانت فتاة جميلة رائعة الحسن.
– أغبطك له.. فسألني
– على ماذا؟.
– على فيرونا
ضحك بتعالٍ واعتزاز, بينما استقبلتني هي بابتسامتها المتسارعة نحوي ونظراتها التي تستطلعني, وعينيها الزرقاوين المكحلتين بالفتنة, تحركت نحوي بقامتها الفارغة الملتفة وأسلمتني راحة رخصة, تمنيت لو أقبلها على الطريقة الغربية لكنني خشيت شرقية أسعد فابتلعت شفتي بنهم الصائم وقلت أخاطب نفسي: ليست لك.
وتفضحني نظراتي بمعانيها التي لا تخفى على الأنثى, تتشبث براحة يدي تسحبني إلى الداخل لتجلسني في ركن دافئ يدفئ جسدي كما أدفأت هي روحي, وكان الجليد خارجاً أكثر من الثلج الكثيف, تلذذت بلمسة يدها ثم رفعت رأسي حاملاً نظراتي غلى وجهها ثم أغضيت.
اعتذرت بداخلي, بيني وبين أفكاري المتصارعة من أسعد, لأنني أحسست أني أعتدي على ما يخصه ولا يخصني, ولو أن الاعتداء كان اعتداء مشاعر لااعتداءً مادياً ,ذلك الذي لم أفكر فيه لأنني أعني بالروح قبل الجسد,لا أفكر بالجسد إلا بما يخصني,فكرتي تنصرف نحو الاستمتاع بالجمال لا أكثر من حدود النظر حتى حدود التملك القائم على توافق الإدارات الحرة.
غير أن بعض التكوينات الجسدية, لا تترك لك حرية الوقوف على الحياد, تغزوك دون هوادة وتهمل مشاعرك واتجاهاتك التي تدعيها ولا تمكنك من البقاء على الحياد؛ أستغفر الله..
ولكن ماذا افعل بمشاعري تلك التي لا أقوى على كبحها؟. وأتساءل:
– هل الجمال ملك لأحد وحده؟ إنه إبداع الخالق, وقد أبدعها بمطلق قدرته, فهل يختص بها شخص مفرد؟ لو أننا طبقنا نظرية احتكار الجمال على اتساع النظرة والفكرة, لكان لنا أن نطبق هذه الاحتكارية على جميع الكائنات الحية من حيوان ونبات وجماد بعد الإنسان, ولعلها- أعني نظرية الاحتكار هذه- تطبق في حدود ضيقة وغير منظورة, تماماً كما يحتكر الجمال في الإنسان. واسمح لي يا أسعد أن أحتج على هذا الأسلوب, فالجمال يجب أن يكون كحلة عيون الجميع, لقد أدرك اليونان قبلنا ذلك, كما أدركه الفنانون التشكيليون والموسيقيون وسواهم واستثنوا الإنسان, ((المرأة تحيداً)) غير أنهم دخلوا ذلك العمق الموصل إليها بإبداعاتهم الرائعة, لكنهم لم يستطيعوا بلوغ أدنى درجات إبداع الخالق.
إذن لم هذا الصراع؟. نحن نسعى للوصول إلى الجمال بكل الوسائل, حتى بالوسيلة الأدبية, شعراً ونثراً, ولكننا نسجن الروح.

"عـــودة العــــاثر"
تقررت عودة أسعد إلى الوطن, قال الطبيب:
– بان أسعد يحتاج لرعاية دائمة, لن يستطيع بعد الآن أن يمارس مهام عمله, الأفضل له أن يعود إلى بلاده, بإمكاننا أن ندخله هنا مشفى المعاقين إن لم يكن لديه هناك من هو أهل للرعاية به, وأفضل لو رحل.
كانت فيرونا قد نذرت نفسها بعد الانتهاء من عملها لخدمة أسعد الذي لم يكن يعي حقيقة الموقف, كان ينظر إلى فيرونا نظرات من لا يعرف الأخر ثم يسأل: من هذه, كانت ذاكرته مشوشة وكان في حالة ضياع من عدم التمييز.
برغم ذلك لم تتخل فيرونا عنه, كانت دموعها مدرارة على الدوام وهي تحوم حوله وتقدم له خدماتها.
ترى مل الذي كانت تبكيه فيرونا, كانت تدرك بحق أنه لم يعد فارسها الذي رسمت عليه أحلامها..
حين كنا نحمله وهو ضمن الجبائر إلى الطائرة التي ستنقله عائداً إلى الوطن كنت أستعرض الشريط الأخير. كُلَفتُ أنا بأن أبلغها قرار عودته إلى بلاده, وبصعوبة بالغة قلت لها:
– صعب عليَ يا فيرونا أن أبلغك ذلك.
– ماذا بان عماد؟ تكلم فأنا أتفهم الموقف.
– لقد تقرر أن يعود أسعد إلى الوطن.
تهالكت حينها على المقعد بإعياء, كان نبع المشاعر يفيض من عينين أجمل ما رأيت في حياتي مشاعر مغسولة بالدموع نهضت على أثرها من المقعد, وتقدمت من أسعد, تطبع على شفتيه قبلة وتقول له:
– ناس خليدانو أسعد (أي مع السلامة). ومن ثم تستدير لتغادر بقامتها الممشوقة وحسنها البديع وقبل أن تخرج من باب الغرفة ناديتها:
– فيرونا الجميلة
استدارت نحوي وعلى وجهها ابتسامة مصطنعة, فقلت لها:
– لا تغادري فالوطن أفضل.
لوحت براحة يدها وقالت:
– كانا مغادرون بان عماد.ز كلنا مغادرون, وداعاً. ثم تابعت سيرها حتى اختفت عن الأنظار.
سأظل أذكركم على الدوام.
نظرت في وجه أسعد لأستعير منه موقفاً يساعدني على الثبات والعزاء, فلم أرى غير دمعتين تترقرقان في مآقيه. لذلك أغلقت كتيب رسائل الأطياف ودسسته بين الكتب على رفوف مكتبتي في محاولة لنسيان ذلك الزمن من حياتي مسكتاً كل الأطياف بإمكانها أن تشوش هدوء مشاعري.
وتسألني عن أسعد؟
من هو أسعد هذا؟.. يخال لي أعرف هذا الاسم بل صاحب الاسم.
سؤالك هذا يدفع جميع الأطياف إلى الضجيج ضمن ذاكرتي وضمن كتيب الرسائل, فأرفع رأسي إلى حيث واريته أو ركنته على أحد رفوف المكتبة, فأحس بعويل مكتوم وبرعشة حزن تتحرك بداخلي فتؤجج مشاعري, أمام هذا الكتيب أحس بوقفة من يقف أمام رمس قديم مضى عليه زمن ممتد عميق البعد, لكنه مازال يتأجج بحياة من نوعٍ غير الحياة التي نعرفها, لعلني أسميها حياة صامتةً لكنها حياة, حياة لا مكان لها إلا بداخلي, هي معادلة من حدٍ واحد, الحد الآخر بقي بعيداً, ولذلك لم يتساو طرفاها, باتت عرجاء مختلة التوازن, لا أظن ذلك ممكناً, دائماً هناك ثغرة في البناء لا يمكن تلافيها, وكيف يمكن ذلك بعد كل الذي حصل, آه يا إيفا, أنت طرف معادلتي الآخر الذي فقدته وفقدت الأمل في تحقيق التوازن في معادلتنا الصعبة كمعادلة فيرونا وأسعد,
وأتساءل:
((هل يتم التوازن باجتماع طرفي المعادلة.. الوطن ومن يحيا على أرضه!!.. أترى معادلة أنور قد تحققت بعد أن ألقى عصا ترحاله في ذاك الريف البعيد مع فيولا؟ لا أظن, لا بد من خلل آخر يؤدي إلى عدم التوازن, الأخطاء موجودة دائماً, ومن العسير تلافيها, لعل المقولة والنتيجة في المعادلة هي أن يتساوى طرفاها..))
ولذلك أيها الصوت الذي يعلو بداخلي ويثير مشاعري القديمة, هلاُ كففت عن تذكيري بالماضي؟ بهؤلاء الذين غفوا مع الزمن منذ أمد بعيد, فتذكيري بهم يوجعني وربما بما لا أدركه يوجعهم, لعل التواصل معهم يتم بوسائل مما وراء المباشر, ما يشبه التحكم عن بد, وقد كون هذا مكناً, ل أدري..
لذلك حين تسألني عن أسد بعد أن تكون ذكراه داخلي قد غفت, أنطلق بكليتي نحو طيفي القديم أناديه, ألامسه بكل الود ويلامسني بك الوداعة التي عهدتها فيه فتصحو معه كل الأطياف الأخرى تعاود خطابها المشاعر, ويا له من خطاب حين أعاود الوقوف أمام تلك العينين السحريتين, اللتين تختزنان بريقاً آثراً, إنهما عينا فيرونا, أوفيرونيكا الجميلة, ـرها غادرت براها الرائعة غلى ألمانيا؟!. ما أتعسها لو كانت قد فعلت ذلك, أنا أدرك تماماً مدى العذاب الذي يخلفه البعد عن الوطن, لذلك أنا سعيد بعودة أسعد إلى وطنه, غدونا جميعاً في الحضن الذي يحتوينا بكل الحب و الحنان, ولكي أدرك الموقف على حقيقته, حاولت الاتصال مع أسعد عن طريق بعض المعارف ي الوادي, فعاد صدى الصوت المنادي إليَ سريعاً يقول:
((أنا الآن في الأرض الوطن بين زوجي وأولادي وما أسعدني, حقاً أنا أسعد)).
لم أعاود بعد ذلك مد يدي إلى كتيب الرسائل واستدعاء الأطياف من جديد, لم أفعل ذلك ثانيةً, ليس لأنني نسيت الماضي ومن فيه, أبداً, فمازلت بشوق للجميع ولمن حوتهم تلك المدينة الرائعة التي أهدتني تلك الذكريات والأطياف, ذكريات إيفا والصغيرة إيرينا وفيرونا الجميلة.
وهل أستطيع أن أهمس:
مشتاق إليك يا براها الجميلة, حقاً أنا في وطني ولا شيء يماثل سعادتي, ولكني مشتاق إليك يا براها ولا أكتم اشتياقي .. وما يعزيني هو هذا الهسيس القادم من بعيد, من الأصوات التي غدت رهن الغياب.
انتــــهــــت