من التشخيصية إلى التجريدية الجديدة
إلى الأوب-آرت.. مقالة للفنان سعيد العفاسي جـ2/2 : وكان الأوب – آرت قد انبعث من التجريدية الهندسية. وكما قلتُ يريد هذا الفن خلق انطباع بوجود الحركة الفعلية عن طريق استغلال صفات العين التفكير بها

 من التشخيصية إلى التجريدية الجديدة
إلى الأوب-آرت…..

الفنان التشكيلي والصحفي سعيد العفاسي
فاس ـ المغرب

الجزء الأول من المقالة

كل فن هو تجريد في جوهره

ونتابع الجزء الثاني

يقال أن لهولندا ثلاثة أطواد فنية: رامبراندت  و فان غوغ و بييت موندريان. كان فن الثالث في حقل التجريدية، و منذ البداية إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ظاهرة متماسكة للغاية. كان موندريان أصغر من كاندينسكي بست سنوات، وفي باريس احتك بالتكعيبية، وقبلها كان تصويره يحمل كل صفات الفن الهولندي الذي يميل إلى التأمل واستخدام الرموز. وكان تعرفه على التكعيبية قد سبب انقلابا جذريا في فنه، فاللون أخذ يهمد وبدأ البحث عن فضاء ومكان جديدين للتصوير وفق منطلق التكعيبية. وفي الحقيقة لم يهتم موندريان كثيرا بالتكعيبية التحليلية لدى بيكاسو وبراك. فقد كان شاغله الأول البحث عن الجوهر وفق الأفلاطونية. ومعروفة هنا التجربة التي مر بها في عام 1912 عندما رسم شجرته المشهورة بكامل هيئتها الطبيعية من زاوية نظر واحدة في البدء وبعدها رسم هيئتها التجريدية التي كانت خلاصة لتنقية الموضوع من كل عناصر المصادفة والمبالغة ومن أجل تحقيق ما أسماه الشكل المنسجم والنقي.

كانت اهتمامات موندريان مرتبطة، بصورة أقوى فأقوى، بفن المعمار. وفي عام 1917 يصدر مع الهولندي الآخر ثيو فان دويسبورغ مجلة ( دي ستيل ) التي أصبحت فيما بعد لسان الجماعة التي تحمل الاسم نفسه ودعت إلى التجريدية الهندسية في التشكيل.

وتدين التجريدية المعاصرة بالفضل لمصور آخر يصعب درجه في مدرسة معينة ، وهو باول كلي . كان كلي في البدء معجبا باثنين لا جامع بينهما : فان غوغ وسيزان ، لكنهما قدرا على التعايش في مخيلة هذا الفنان ذات الخصوبة المدهشة.

وفي عام 1911 يتعرف على كاندنسكي وفرانز مارك وينتمي إلى جماعة (الفارس الأزرق). وكانت حصيلته كبيرة آنذاك وخاصة في الرسم الذي كان المفضل لديه. ويكتب حينها في يومياته التي كان يدوّنها منذ عام 1898 لغاية العشرينات والتي تعتبر عملا أدبيا قيّماً أيضا: إن الموضوع بحد ذاته ميت. الحساسية أولا ثم الموضوع .)*5 وفي الحقيقة لا تملك رسومه ولوحاته موضوعا حكائيا إلا أنها بالتأكيد غنية بالمضمون الشعري . إنها خفيفة منغّمة مليئة بالمعاني المستترة و الإيماءات الخفية. أما الأسلوب فيذكر بعبث طفل حسّاس. وعند كلي ليس هناك من تطور تجريدي بل يصعب حقا وصفه بالتجريدي القح. كذلك لم يطمح كلي في خلق نظرية وعلى العكس من موندريان أو ماليفتش

وكان الفصل التالي في تأريخ التجريدية هو مدرسة التشييدية الروسية التي جاءت بعد ثورة البلاشفة وحلت محل التفوقية. والهدف الرئيسي للتشييدية كان الربط النشيط للفن بالحياة الاجتماعية وتكييف التشكيل لعصر التصنيع وما جاء به من تأليه للآلة والفكر التقني الهندسي. و كانت هذه المدرسة بمثابة هجوم منظم ضد جماعة ماليفتش الداعية إلى نقاوة الفن وعزله عن القيم العملية والنفعية والفكرية أيضا. و قد دعمت المدرسة الجديدة جماعة ُ المستقبليين الروس المتحلقة حول الشاعر ماياكوفسكي الذي نشر في عام 1918 ما يسمى ب(القرار رقم واحد)*5 في مجلة المستقبليين والذي يدعو فيه المصوريين إلى تغطية جنب المدينة ورأسها وأثدائها بالرسوم والألوان. وكان ممثلو التشييدية قد دعوا إلى ضرورة إزالة التقسيم التقليدي للفن إلى فن نقي (التصوير والنحت والغرافيك) وفن نفعي (البناء والأدوات وغير ذلك)، وقالوا إن الفن والغرافيك النفعيين (الملصقات والإعلانات وأغلفة الكتب) ينبغي أن تلحق بالتقدم الحضاري وأن تصوغ حياة الإنسان في أطر الواقع الاجتماعي الجديد. وكانت في خدمة هذه الأفكار المجلة الطلائعية الفن والصناعة كذلك مجموعة المشاغل الفنية التي حلت محل أكاديميات الفنون وشمل عملها التصوير والنحت والرسم الجداري والمعمار والغرافيك وأعمال النسيج والسيراميك والمعادن والنحت الخشبي. وكان شعار تلك المشاغل: التشييدية موقف فكري عصري شامل قوامه أن ليس هناك من فن خالد بل أن كل شيء يتغير. كذلك دعا التشييديون السوفييت إلى تصفية تصوير اللوحات التقليدي الذين نعتوه بالبورجوازي ، وقيام الفن الوظائفي بدلا عنه. وكان أكثر فناني هذه الجماعة اندفاعا فلاديمير تاتلين الذي كانت قد سحرته أعمال بيكاسو من عام 1912 والتي تعود إلى فترة التكعيبية التركيبية. وتحت تأثير بيكاسو صمم تاتلين نصبه المعروف للأممية الثالثة والذي كان عبارة عن معمار متحرك. وكان من المقرر أن يتجاوز النصب في الارتفاع برج إيفل. وفي تصميمه يبدو كحلزون من حديد يحوي أسطوانات ذات جدران زجاجية تستخدم كقاعات للاجتماعات وصالات للموسيقى ومسرح وإدارات صحف ومكاتب عمل . وفي الواقع كان تصميم تاتلين مبتكرا ووجد استخداما عمليا له في برجي التلفزيون في برلين والقاهرة. ومن حلفاء تاتلين في البحث عن تعبير بلاستيكي جديد لعصر الصناعة كان الكسندر رودتشينكو وأ يل ليسيتسكي والأخوان أنتوني بفسنر وناعوم غابو. ومعظمهم ترك التصوير واتجه إلى الفن العملي. ولعب ليسيتسكي دورا هاما في روسيا فيما يخص التجريدية الهندسية. وكانت مادة بحثه اكتشاف العلاقات بين الأشكال ذات البعدين وبين الأخرى المجسّمة. أما بفسنر وغابو فكانا قد أصدرا في عام 1920(المانفست الواقعي)*5 الذي أعلنا فيه بأن أعمالهما الفنية تمنح تعبيراً للتحسس بالعالم على مستوى الزمان والمكان. وفي المانفست صاغا نظريتهما المسماة بالإيقاعات الحركية: نعتبر الإيقاعات الحركية عنصرا جديدا للفن وهي الأشكال الرئيسية لتحسسنا بالزمن الحقيقي.
كان قصد هذين الفنانين هو أن الزمن-هذا البعد الرابع- يكون بمثابة عملية لصياغة الشكل ذي الأبعاد الثلاثة أثناء حركة الرائي حوله أو حركته المحورية حول نفسه. وفي أعوام 1916 – 1922 صمم غابو تكوينات فراغية من المعدن والزجاج والبلاستيك متغيرة الأشكال وبعدها جعل هذه الأشكال تتحرك دائريا باستخدام محرك كهربائي. وهذه التقنية وصلت ذروتها لدى الفنان التجريدي الأمريكي
ألكسندر كالدر. أما بفسنر، النحات فيما بعد، فقد كان في أعوام 1920 – 1923 يلون صورا من التجريد الهندسي توحي بشكل واضح بتأثير التكنيك الصناعي.

وفي تلك الفترة كان موندريان يضع اللمسات الأخيرة لنظرية البلاستيكية الجديدة التي أعلنها في باريس في عام 1920. وكانت الأشكال في صوره أخذت تميل إلي التبسيط ، والتضاد بين الألوان الحارة والباردة يخف إلى الحد الأدنى . وفيما بعد تصبح التكوينات هندسية بحتة وذات طابع معماري واضح ، أما الألوان فصارت الآن أساسية. و تبلور مفهوم الهارموني الذي أصبح الآن قائما على التضاد بين العمودي والأفقي. وفي الواقع كان مفهوم موندريان قد تشكل تحت تأثير فيلسوف الفن الهولندي شوينيماكير الذي كان يؤكد على أن دور الفنان هو التعبير عن التركيب الأساسي للكون وما فيه من تعارضات مثل العنصرين الروحي والجسدي، والذكوري والأنثوي وغير ذلك. وعند موندريان كان الأفقي يعني الاستقرار أو الضد للهارموني في حين أن العمودي هو الهارموني أو الدينامية. وكان هذا الفنان مؤمنا بأن نظريته تشخّص التناقضات القائمة في الكون وفي كل إنسان وأن على هذا المبدأ الفني الجديد أن يقلل من هذه النقائض عن طريق خلق التوازن في روح الإنسان والمجتمعات المتآلفة بدورها من الأفراد. ورأى موندريان أن القرن العشرين قد أدخل الفرد بصورة متزايدة الشدة، في الحياة الاجتماعية ولذا فعليه أن يخلق فنا شموليا مقبولا وشائعا يتغلغل في الحياة الاجتماعية و يحقق الهارموني العام والتوازن. ومن النتائج العملية لشيوع مبادئ البلاستيكية الجديدة، استفادة المعماريين من هذه النظرية عند خلقهم للأسلوب المعماري المسمى بالعالمي والمعتمد على بساطة الهيكل ونبذ عناصر التزيين غير النابعة من التركيب نفسه.

وبعد الحرب العالمية الثانية كانت التجريدية الهندسية التي بدأها موندريان وماليفتش ودويسبورغ هي الشائعة والسائدة.

واغتنت هذه التجريدية بأعمال الطبيب الهنغاري فكتور فازاريلي الذي ابتكر في نهاية الخمسينات تلك التكوينات الهندسية الدقيقة البيضاء – السوداء والمتألفة من الدوائر وأشكال المنحرف التي توهم المتلقي بوجود الحركة في التكوين. وصار فازاريللي رائدا لمدرسة الأوب – أرت (الفن البصري) .

وفي عام 1954 استخدم ناقد فرنسي أسم (تاشيست – المبقع)*5 للوحات التي تكون البقع الملونة عنصرها الرئيسي بل الوحيد. وكان ذلك اتجاها جديدا في التجريدية أساسه النزعة العفوية والارتجال. وكان مولده في المعرض الذي نظم بباريس في عام 1951 وشاركت فيه أشهر أعمال المصورين التجريديين أمثال جاكسن بولوك ومارك توبي ووليم كوينغ وجان بول ريبو. وسمّي هذا الاتجاه بطبعته الأمريكية بالتجريدية التعبيرية أو Action – painting . والاتجاه الآخر المسمى بالكاليغرافي تأثر بالخط الصيني والياباني . وكان معظم فنانيه قد عاش لفترة من الوقت في الشرق الأقصى . وفي فرنسا تميز هذا الاتجاه بتعبيريته الحادة ،أما الممثل الكلاسيي للتجريدية التعبيرية الأمريكية فكان بولوك (توفي في عام 1956) والذي ترك الأدوات التقليدية في التصوير كالفرشاة ولوحة الأصباغ وأخذ يستخدم العصي والسكاكين ورش الألوان أو قذفها على اللوحة الموضوعة على الأرض. كما استخدم مختلف المواد كالرمل والزجاج .

وبعد صعودها في فترة ما بعد الحرب انزوت التجريدية الهندسية أمام اجتياح التجريدية الأخرى بنزعتيها الرئيسيتين:

التعبيرية غير المشكلة (informel) أو Action – painting)) والمسماة في فرنسا بالبقعية والثانية الكاليغرافية. وكان الأوب – آرت قد انبعث من التجريدية الهندسية. وكما قلتُ يريد هذا الفن خلق انطباع بوجود الحركة الفعلية عن طريق استغلال صفات العين التفكير بها . فاللوحات تبدو هنا كأنها متموجة لامعة في عين المتلقي. ومعلوم أن مشكلة الحركة في الصورة كانت قد سيطرت على مخيلة العديدين من كلاسيي التجريدية. ويكفي أن نشير إلى أقراص ديلانوي وتكوينات ماليفتش والأشكال الفضائية للتشييديين الروس وخاصة غابو. إلا أن الحركة تنبع هنا من دينامية الترتيب البلاستيكي والتوترات المتبادلة والنابعة من وجود عناصر معينة، بينما في الأوب – آرت تكون الحركة ُمقتنصة عن طريق الوهم, أي الإيهام, وتعتمد على سلب العين إمكانية التركيز على نقطة واحدة الأمر الذي يؤدي، بلا شك، إلى خلق انطباع يوهم بوجود الحركة.

وفي الحقيقة وجد هذا الفن ازدهاره الفعلي ومكانه المناسب في الفنون العملية أو الوظائفية وخاصة الملصقات الدعائية وتزيين القماش وغير ذلك .

وفي الأخير تبين أن صعود التجريدية وهيمنتها لم تقض على الفن التشخيصي. وهنا يرجع الباحثون العملية إلى أمور كثيرة في مقدمتها أن كامل الحضارة الأوربية قد شيدت على ثقافة الصورة أي النزعة التشخيصية التي تجاهلتها بضعة أجيال من الفنانين الأوربيين والأمريكان وغيرهم. ولعل كلمات كاندينسكي كانت تعبر بصورة صادقة عن مثل هذا الواقع الحضاري: (لو أننا اليوم قررنا قطع جميع روابطنا بالطبيعة والانفصال عنها بدون تردد و نفي أمكانية الرجوع، ولو إننا قمنا بترتيب اللون النقي والابتكارات الشكلية الحرة فقط لكانت أعمالنا محض منمنمات هندسية ولما اختلفت عند النظرة الأولى عن ربطة العنق أو السجاد. ورغم أقوال الجماليين الاقحاح أو الذين يبحثون قبل كل شيء في الطبيعة عن الجمال فإن جمال اللون والشكل ليس هدفا بحد ذاته. وكان هربرت ريد قد حذر من التخلي عن العنصر البشري في الفن طالما أن الفن هو من مبتكرات هذا العنصر…


من المصادر الرئيسية:

*1 "المصورون التكعيبيون" لـ "غييوم أبولينير" 1913
*2 كاندينسكي" ( حول العنصر الروحي في الفن ) من عام 1911
-*3 عدنان المبارك: القرن العشرون. التحولات الكبرى في تأريخ البشرية، منشورات الزمان,2001.
– *4 عدنان المبارك: الاتجاهات الرئيسية في الفن الحديث على ضوء نظرية هربرت ريد ، منشورات وزارة الإعلام العراقية, 1973.
H.Read, Aconcise History of Modern Painting, London, 1959. 5*
W.Kandisky , Concerning the Spiritual in art,New York , 1947.
G.Apolinaire, The Cubist Painters: Aesthetic Meditations, New York, 1944.
P. Klee, On modern art, London , 1948.
P. Mondrian, Plastic Art and Pure Plastic Art 1937 and other Essays,
1941 – 1943. New York,1945.
History of Modern Painting, Geneva. Albert Skira :
From Baudelaire to Bonnard . The Birth of New Vision.1949.
Matisse Munch Rouault. Fauvism Expressionism.1950.
From Picasso to Surrealism.1950.