من التشخيصية إلى التجريدية الجديدة لسعيد العفاسي
- سبتمبر 2, 2010
- 0
من التشخيصية إلى التجريدية الجديدة إلى
لأوب-آرت…..
دراسة تعرف بفن التصوير للفنان التشكيلي والكاتب المغربي سعيد العفاسي.جـ1/2
المادة البصرية من مكتبة الفنان مجد كردية مشكوراً
من التشخيصية إلى التجريدية الجديدة
إلى الأوب-آرت…..
الفنان التشكيلي والصحفي سعيد العفاسي
فاس ـ المغرب
كل فن هو تجريدي في جوهره
بالرغم من أن التجريدية تيار تسيطر مبادئه العامة على التشكيل المعاصر نجد أنها ما زالت غريبة شعوراً وذائقة على المتلقي العادي. ولا يخلو هذا الأمر من مفارقة معينة. فالفن غيّر قوانينه عبر شتى المراحل التاريخية ولأكثر من مرة. وكان هضم التحولات مرهونا بأمور كثيرة. والتجريدية المعاصرة لا تشكل هنا استثناء. فهي مرفوضة وحتى في بلدان العالم الإسلامي التي يعتمد جوهر تقاليدها الفنية على التجريد بالذات. ولاشك أن لهذه الظاهرة أبعادا أخرى سوسيولوجية ونفسية تكون بعيدة عن القضايا المرتبطة بالذائقة الجمالية والفنية.
لقد عرف الإنسان التجريد قبل إعادة الخلق وتقليد العالم الخارجي. وهناك تفسير يقول بأن الإنسان في معركته الضارية تلك من أجل البقاء في طبيعة رهيبة تقف له بالمرصاد، أراد الفرار من كل ما يذكره بها. ومن هنا لجوؤه إلى التجريد الذي بقي متنفسا لحسّه الجمالي. وعلى حد تعبير"هربرت ريد" لم يعرف الإنسان فن أعادة خلق الطبيعة إلا في فترات معينة من التأريخ مثل فترة الحضارة الهيلينية والنهضة الإيطالية التي امتدت في واقع الحال إلى أزماننا الحديثة. ولعل ما يقصده ريد أن التجريدية بشتى أشكالها هي الصورة والفعل الوحيدان – عدا استثناءات معينة – واللذان يناسبان ، لحد كبير، الحس الجمالي وإرادة الخلق لدى الإنسان.
لقد بدأت التجريدية المعاصرة من التشكيك بأهمية الموضوع في التصوير خاصة. ومرة قال المصور الفرنسي "موريس دينيس" :"علينا أن لا ننسى بأن اللوحة سواء أكانت حصان معركة أو امرأة عارية أو أيّ حكاية أخرى ، هي قبل كل شيء, سطح مستو تغطيه الأصباغ الموضوعة في نظام معين ". و بدأ رسامو أوربا في مطلع القرن العشرين ينفصلون تحت تأثير الرمزية التي عاملت الشعر كفن الألفاظ وليس الأفكار ومن خلال هذه الفلسفة الفنية الجديدة ، عن تقاليد سادت قرونا طويلة وكانت تقيّم العمل الفني على أسس ٍ في مقدمتها الموضوع الذي يعالجه. وهم أرادوا بفلسفتهم التأكيد على أن الموضوع مجرد حجة للتعبير عن أسلوب المعالجة.
إن ما قاله "دنيس" بقي لفترة معينة مجرد تخريج نظري لمسألة انتفاء أهمية الموضوع. ولم يجد تحقيقا عمليا له إلا على يد "فاسيلي كاندنسكي" الذي خلق في أولى لوحاته نوعا من استقلالية الخطوط والألوان. وكان "غييوم أبولينير" قد كتب: نقترب من فن جديد تماما سيكون إزاء التصوير الذي نعرفه لغاية الآن كالموسيقى بالنسبة للأدب. سيكون تصويرا نقيا تماما كما تكون الموسيقى أدبا نقيا . فحين يستمع محب الموسيقى إلى "كونسيرت" يجرب هو سعادة أخرى غير السعادة التي يبعثها صدى الأصوات الطبيعية كخرير الجدول مثلا أو هارموني النطق البشري المعتمد على العقل وليس الاستيتيطا. وبهذه الصورة يقدّم المصورون لمحبيهم انفعالات فنية معتمدة على هارموني الأضواء المتنوعة لا غير.
تملك الحركة التجريدية قاعدة فلسفية بسيطة يبينها هذا المثال: إذا أخذنا تصوير المدرسة الطبيعية نجد المصور يجهد في تقليد أشياء كما تلتقطها العين بتلك الصورة الآلية. فهو يلون الثوب الحريري بدقةٍ تدفعنا إلى أن نمد أصابعنا إلى اللوحة لكي نلمس هذه الثنية أو تلك. كما أنه يلون الوردة في وعائها لحد أننا نريد أن نشمها. وهذا المصور يقلد، في واقع الأمر، أشياء بواسطة أشياء أخرى هي القماشة والأصباغ. إلا أن قيمة الفنان الحقيقية ليست في تقليد الواقع بل في إغنائه. والتجريدية ترى أن هذا يتم بفضل العامل التجريدي الذي يحويه عمل الفنان. كذلك يكمن جوهر الثورة التجريدية في أن التفكير التجريدي حرر التشكيل تماما من التبعية إلى الأشياء وسمح بالدعوة إلى سيطرة فكرتي النظام و الهارموني بالاعتماد على نظام آخر هو نظام البقع الملونة وتنوع الأضواء. ويكتب هربرت ريد: علينا أن لا نخشى كلمة التجريد. فكل فن هو تجريدي في جوهره. والفن هو هروب من الفوضى وحركة ُمدرَكة بالأعداد وكتلة مغلقة بالأبعاد ومادة غير محدَّدة تبحث عن إيقاع الحياة. ولا تعني التجريدية بمعناها المعاصر رفض الماضي. فهذه الحركة لم تبدأ بصورها الحالية ، كذلك فهي قد عثرت على جذورها في التأريخ وما قبله. مثلا التكعيبيون استفادوا كثيرا من بحوث مصور النهضة الكبير "بييرو ديلا فرانتشيسكا" ناهيكم عن تأثرات التشكيليين المحدّثين بالفنون البدائية ورسوم الأطفال والفن الإسلامي وفن العصر الوسيط وكاليغرافيا الصين واليابان وغيرها من المنابع التي لا يخفى تأثيرها الطاغي على التشكيل الحديث. وكان انبعاث التجريدية من نفس التربة التي أنبتت مختلف اتجاهات فن اليوم . ولقد كان النفور المتزايد من الفن الأكاديمي وعقمه وبداية التململ من حصر التعبير الذاتي للفنان, والاهتمام بالفن الشعبي والأفريقي بشكل خاص ، قد هيأ كل هذا وغيره أيضا ، المناخ لظهور أولى الإشارات التي دلت على مولد فن جديد. وكانت الولادة على يد عمالقة من أمثال "مونيه"
"سيزان" بأعمالهم ذات الطبيعة الانقلابية.
معلوم أن"الوحشية" كانت خطوة هامة في طريق التجريدية المعاصرة شأن الانطباعية وغيرها . وفي عام 1905 أقامت مجموعة من مصوري باريس وفي مقدمتهم "ماتيس" و"فلامنك" و"ديران" و"جورج روو" ، معرضا زاره أحد النقاد الذي صاح قائلا حين شاهد تمثالا يقلد أسلوب النهضة بين صور "ماتيس" وصحبه : "دوناتيللو" بين الوحوش الضارية! وكان "دوناتيللو" من كبار نحاتي عصر النهضة. وقد وجدهم هذا الناقد وحوشا لأنهم رفضوا القواعد الكلاسيكية المتحضرة للتخطيط والتكوين والتلوين واستخدموا الألوان الصارخة التي كونوا منها أشكالا حرة تعبّر بالكاد عن المواضيع ، كما سخروا من المنظور واضعين بقعة جنب أخرى وفي أحيان كثيرة بدون مساعدة الفرشاة إذ عصروا الأصباغ من الأنبوبة على القماشة مباشرة.
لقد تجاهل الوحشيون، عن عمد، اللون الطبيعي للموضوع و نتج عن ذلك أن كانت ألوانهم تجريدية معزولة عن تجسيدها الطبيعي. ولكن الوحشية لم تكن معزولة عن الماضي تماما. فبالرغم من تباهي "فلامنك" بأن قدمه لم تطأ "اللوفر"، وأن كل ما أعجبه في فن الماضي هو أعمال "فان غوغ" الذي أحبه أكثر من أبيه، كان هناك "جورج روو" الذي سحرته رسومات زجاج كاتدرائيات القرون الوسطى.
الجديدة ) التي كانت تسعى الى عرض أعمال الفنانين الأجانب وبينهم بيكاسو وبراك وجماعة ( الوحشية ). وحينها كان هذا الروسي المولع بمواضيع الفولكلور يرسم بروح قريبة من مباديء ( الوحشية ). ولكن لم يستمر ذلك طويلا. فقد أخذ يشتت لدرجة أكبر فأكبرالمظهر الطبيعي لمواضيعه ومن ثم الوصول الى نقطة الإنعطاف أي ثورته التجريدية.
وقبل أن يزيح "كاندنسكي" مرصد الرؤية التقليدية للعالم الخارجي جانباً كانت هناك ثورة التكعيبيين الذين كانت نقطة انطلاقهم تجاهل الموضوع كعنصر صلد يشمخ في الزمكان. وهذه الثورة جاءت في أعوام 1907 – 1913، وكانت في البدء على يد الاسباني "بيكاسو" ومن ثم بإسهام الفرنسي "جورج براك" الذي كان قد واكب بحماس ثورة الوحشيين. فقد بدأت التكعيبية بلوحة "بيكاسو" "آنسات من آفينيون" من عام 1907 والتي تميزت بعنفها وجرأتها وقلقها الموحي. وفي السنة نفسها التحق "براك" ب"بيكاسو" وبدءا معا طريقا جديدا قاد إلى أخطر انقلاب في الفن المعاصر. وكان ما بحث عنه هذان الفنانان نظرة جديدة إلى الموضوع والعلاقة المتبادلة بين المواضيع في المكان، بعبارة أخرى بحثا عن مكان جديد مدرك ومفسَّر بصورة جديدة في اللوحة. وفي الحقيقة كانت علاقة سطح القماشة المستوي بالمكان المغلق بأبعاد ثلاثة، القضية َ الرئيسية في تأريخ التصوير. وفي عصر النهضة بشكل خاص اتفق على المفهوم الذي شاع بعدها، مفهوم "المنظور" الذي حين يؤخذ به في التصوير ُيوهِم الرائي بأن البعد الثالث "العمق" موجود. و كان هذا المفهوم يعني بالنتيجة أن مركز الرؤية لابد من أن يكون كل مرة ثابتا ، وهذا يعني أنه يقدم لنا فكرة ناقصة عن الواقع الذي لا نتعرف عليه إلا من هذه الزاوية أو تلك.
وقد أرادوا لهذا المفهوم أن يكون أزليا وناقلا أمينا للواقع الموضوعي. وما فعلته التكعيبية ليس إلا قلبا لهذا المفهوم النهضوي وإيقافه على ساقيه. . فالتكعيبية ضاعفت مواقع الرؤية ووضعت حقا ، من الناحية الموضوعية والفعلية ، الشيء في المكان الفيزيقي. ومن المعلوم أن التكعيبية لم تتلقف الوحي من اللامكان بل من فن "سيزان" الذي كشف زيف مفهوم المنظور النهضوي فذلك التشويه البسيط الذي نلحظه في لوحات هذا الرائد الكبير للتصوير الحديث كان نتيجة نظرته المتشككة لمفاهيم المنظور وموقع الرؤية الثابت. وقد كمنت ثورته أيضا في تبديده لأسطورة الموضوع بشكله الأزلي والصالح دائما للنمذجة في العمل الفني بمظهر مادي معين. وكان التكعيبيون قد واصلوا بجرأة أكبر، فك أسرار أشكال الشيء ومن ثم تركيبه وتقديمه المتزامن في التصوير من مختلف مواقع الرؤية . وهذه الطريقة أسماها "براك" بالاقتراب من الشيء. ويقول هنا : لا مكان للكلام عن ابتعادنا عن الموضوع. فنحن نتوجه صوبه. وهذا بالضبط ما كان يثير اهتمامنا. و في عام 1909عندما ظهرت لأول مرة في تصويري المواضيع المحطمة إلى أجزاء كان ذلك قد أعانني في تحديد المكان والحركة فيه، إذ لم استطع مسك الموضوع بدون أن أخلق المكان قبلها.*2
وهذا التحطيم الذي قام به "بيكاسو" و"براك" يسمى في تأريخ التكعيبية بالفترة التحليلية من أعوام 1909 – 1911 . وهكذا خلق بدل المكان المنظوري التقليدي مكانا جديد سمّي بالمكان التكعيبي. ونحن نجد أن هذا المكان قويّ الصلة بالمكان في الطبيعة الموضوعية رغم صعوبة إدراكه بالمنظار التقليدي.
لقد قامت الوحشية بثورتها ضد الموضوع التقليدي عن طريق اللون بالدرجة الأولى بينما هاجمت التكعيبية بثورتها الموضوع ومكانه. الأولى كانت ثورة امتدت إلى أحد شقي التصوير – اللون ، والثانية ضد شقه الثاني – الشكل. والثوار القادمون دمجوا الشقين في ثورتهم .. وكان أولهم "روبير ديلانوي" مع زوجته "سونيا"، لقد بدأ هذا الفنان دربه كانطباعي ثم سحره "غوغان" وبعدها تعلم لفترة من الوقت لدى سيزان الأمر الذي قربّه فيما بعد من التكعيبية ودفعه إلى العمل بحماسٍ مع روادها. وفي أعوام 1909 – 1912 ظهرت أولى لوحاته التكعيبية ذات الطابع الخاص المتميز بالتركيب البلوري للموضوع والألوان النقية المضاءة. وكانت تلك الفترة حاسمة لهذا المصور وفي تأريخ التجريدية أيضا . ففي عام 1912 أدخل ديلانوي التجريدية الصرفة في لوحاته. وكان منطلقه مغايراً لما استخلصه "كاندينسكي" الذي لون قبلها بسنتين أولى لوحاته التجريدية . فاستنتاجات "ديلانوي" كانت ذات صبغة تقنية صرفة وعكس دعوة الثاني الذي كان يتقدم دائما كمنظر وفيلسوف للفن. وتعتبر تجريدية الفرنسي متابعة منطقية للإنجازات السابقة وتحقيق نوع من التكامل لأكبر انقلابين في الفن الحديث: الانطباعية والتكعيبية. وكما نعرف كانت الأولى قد أكدت على التأثيرات الضوئية ومع طرح قضايا الشكل جانبا، وبعبارة أخرى كانت النقيض للثانية التي هدفت تشييد شكل ومكان جديدين مع تجاوز دور اللون كعنصر رئيسي . وكان "أبولينير" أكبر معجب بفن الزوجين "روبير" و"سونيا" والذي أسماه بالأورفيوسية نسبة إلى المغني الإغريقي الأسطوري.وجاءت هذه التسمية تحت تأثير دينامية ألوان "ديلانوي" وتدفقها الشاعري.
وقد تحدث*3 "كاندينسكي" عن نفس الأسس لاكتشاف "ديلانوي" حول التكامل بين اللون والشكل اللذين رآهما مترابطين بقوةٍ مما دفعه إلى الفحص المعمَّق لتأثير الشكل على اللون. وقد وجد أن هناك احتمالات ظهور أنواع جديدة من الهارموني التي تبدو ، ظاهريا فحسب ، متعارضة مع مبادئه العامة. ويكتب بأنه طالما يكون عدد الألوان والأشكال كبيرا للغاية كذلك تكون إمكانيات خلق التلاؤم بينها كبيرة جدا.
في عام 1910 يمسك "كاندينسكي"*2 بقطعة من الورق ليست بالكبيرة ويلون بأصباغ مائية لوحة لا تحمل اسما. وفيما بعد أسماها مؤرخو الفن بأول لوحة تجريدية في العصر الحديث. في هذه اللوحة ينعدم التكوين التقليدي ومركز الثقل. أما الأشكال والهيئات فكانت مبعثرة وغير محدَّدة بدقة، وكلها تنحدر من العالم العضوي وليس الآخر الهندسي. وفي الواقع لم تكن تجريدية "كاندينسكي" بالأمر المفاجئ. فالعناصر التجريدية كانت تتطور تدريجيا في فنه كي تصل الذروة في تلك اللوحة.
إذن كان الوصول إلى التجريدية ، من الناحية التاريخية ، عن طريقين : طريق التجربة التكعيبية الذي سار فيه بعد رائديه كل من الفنانين "ديلانوي" والتشيكي "كوبكا" و "كازيمير ماليفتش" وبعدها الهولندي "بييت موندريان". والطريق الثاني كان طريق "كاندينسكي" الذي لم يمر أبدا بالتجربة التكعيبية ومثلما كان الحال مع السويسري "باول كلي".
وفي تأريخ التجريدية لعب أيضا دورا ليس بالصغير ماليفتش الذي تعد لوحته من عام 1913 (مربع أسود بخلفية بيضاء) بمثابة نزوع متطرف نحو التجريد حينها.وهو نزوع نحو إطلاق أسر الفن من قيود عالم المواضيع. وكان ماليفتش من رواد مدرسة التفوقية الروسية المعروفة التي كان مبدؤها الرئيسي سيطرة الإحساس الخالص في التشكيل، وهذا وجدته المدرسة تأكيدا على القيم البلاستيكية بمعزل عن الموضوع. وهنا لابد من استحضار الخطوات الأولى في الفن التجريدي في روسيا والتي كانت من إبداع ثلة ستكون في ما بعد مدارس متنقلة (ميخائيل واريونوف وناتاليا غونتشاروفا) اللذين أسسا مدرسة الإشعاعية.*3
وفي لوحة غونتشاروفا المسماة مصابيح كهربائية نجد تجزئة لسطح اللوحة بهالات مشعة تملك مراكزا لها بالأصفر الذهبي ،كذلك نلمس في لوحتها قطط انفصالا تاما عن أي شكل من أشكال تقديم الموضوع.
يقال أن لهولندا ثلاثة أطواد فنية: الجزء الثاني