نتقدم بالشكر العميق للمهندس محمد مجد الصاري على مشاركته لنا بالمقالة التي كتبها عن نشوء الكون…

 

نـشــوء الكــــــــون

 

                           

                                                               المهندس محمد مجد الصاري

                                                                   رئيس اللجنة الفلكية

مقدمة :

شهدت بواكير القرن العشرين ولادة نظريات علمية كبيرة و هامة حولت مسار البشرية جمعاء و على رأس هذه النظريات ( النظرية النسبية العامة ) للعالم الكبير ألبرت أينشتاين .

من نتائج هذه النظرية الهامة نتيجة هامة جداً تقول بأن الكون يتمدد وأنه آخذ في الاتساع

لقد تم إثبات هذه النتيجة عملياً على يد العالم الكبير ( إدوين هبل ) في عام ( 1929 ) حيث أثبت بالقياسات التي أجراها أن الطيف المرئي للمجرات (طيف الإصدار و طيف الامتصاص) ينحرف نحو الضوء الأحمر أي أنها تبتعد عنا ( وفق ظاهرة دوبلر في الفيزياء ) وأن الإنزياح الطيفي نحو الأحمر لمجرة بعيدة عنا هو أكبر من الإنزياح المقابل لمجرة أقرب إلى الأرض , و هذه العلاقة معروفة الآن بقانون هبل ( ينص قانون هبل على أن سرعة تباعد مجرة تساوي المسافة التي تفصلها عن الأرض مضروبة بعدد ثابت يدعى ثابت هبل ) أي أن الكون فعلاً يتمدد كما تنبأت النسبية العامة وكان ذلك نصراُ كبيراً للنسبية العامة ودفع كثيراً من معارضي تلك النظرية إلى الاقتناع بها و تأييدها .

وقد أسهم هبل في جزء مهم آخر من الموضوع فقد عدَّ المجرات المرئية باتجاهات مختلفة في السماء فتبين له أنها موزعة بانتظام إلى حدً ما , و بدا ثابت هبل واحد في جميع الاتجاهات .

وهكذا ولدت النظرية الأهم في علم الفلك الحديث عن نشوء الكون والمسماة نظرية الانفجار الكبير ( Big Bang ) وهذه التسمية هي من اختراع البريطاني ( فريد هويل )  ولا تزال هي النظرية الأعم و الأشمل عن نشوء الكون .

 

 نظرية الانفجار الكبير ( Big Bang  ) :

تقول هذه النظرية بأن الكون نشأ عن تمدد ( توسع ) عظيم لبنيته الأساسية والتي لا تتجاوز في حجمها حجم الجسيم الأولي ( البروتون ) .

 

 

 

 عالم نوح

 

 

 

 

ولكن كيف حدث ذلك ؟

يعتقد علماء الفلك الآن أن الكون من بداية الانفجار الكبير إلى اللحظة ( 10 ^ -33   ) ثانية قد تمدد بشكل أسيّ أي أن نصف قطر الكون قد أخذ شكل العلاقة :

R = 1 , 2 , 4 , 8 , 16 , …….

 

وبعدها استقر الكون على معدل التمدد الخطي أي أن نصف قطر الكون قد أخذ شكل العلاقة:

R = 1 , 2 , 3 , 4 , ……..

إن فكرة التضخم هذه تعتبر من الأفكار الأكثر إثارة وأهمية في علم الفلك الحديث فهي تقدم تفسيراً فيزيائياً مقنعاً لعملية تمدد الكون و تقدم إجاباتٍ على معظم الأسئلة المطروحة من قبل علماء الفلك. فبالرغم من أن التمدد البدئي للكون كان قصيراً الأمد جداً ألا أن نتائجه كانت كبيرةً جداً فخلال هذا الزمن تضاعف حجم الكون بشكل هائل علماً بأنه بدأ من نقطة مادية أصغر من البروتون, ولكن الشيء القليل المتضاعف بشكل أسي يصبح كثيراً جداً, ومفهوم الزيادة الأسية تم إيضاحه منذ زمنٍ بعيدٍ من قبل العرب وذلك عن طريق القصة الشهيرة لذلك الشاب العربي والملك و رقعة الشطرنج .

 

 

اعتماداً على هذه النظرية فإن حجم الكون المرصود يشكل ( 10% ) من حجم الكون الكلي ( الفعلي ) وعليه فإنه من العسير جداً معرفة الشكل الهندسي للكون وهل الكون مستوي أم منحني 

إن نظرية الانفجار الكبير تمكننا من رسم سيناريوهات متعددة لتشكل المادة في بداية خلق الكون , ولكن السيناريو المعتمد حالياً من قبل علماء الفلك هو التالي :

نشأ الكون من ذلك الحجم المتناهي في الصغر ومنذ ( 15 ) بليون سنة بتمدد عظيم وفق المراحل التالية:

 

     – في الزمن (   ^ -43 10 ) ثانية كانت درجة الحرارة (   ^ 32 10 ) كلفن والضغط هائل وحجم الكون بحجم الكرة الأرضية في هذه الكرة النارية البدئية تكونت الجسيمات الأساسية للمادة من الطاقة والمسماة الكواركات ( Quarks ) في تلك الظروف كان تحول الطاقة إلى مادة وتحول المادة إلى طاقة أمراً ممكن الحدوث وبسهولة .

 

     – في الزمن (   ^ -33 10  ) ثانية كانت درجة الحرارة (    ^ 23  10  ) كلفن توقف     التوسع الاخطي واستمر توسع الكون بشكل خطي واستمرت درجة الحرارة بالانخفاض .

 

     – في الزمن (   ^ 30 10  ) ثانية تكثفت الكواركات وأعطت البروتونات ( protons ) والنيترونات ( neutron ) ومضاد البروتون ( antiprotons ) وبما أن البروتونات أكثر استقراراً من النيترونات فقد كان عددها أكبر .

 

وعندما يلتقي البروتون بضده ( أنتي بروتون ) فإنهما يتفانيان متحولان إلى طاقة من جديد.

يستمر توسع الكون وانخفاض درجة الحرارة .

 

     – في الزمن (   1  ) ثانية وصلت درجة الحرارة (10 ) بليون كلفن تشكلت الإلكترونات (electrons) وضاداتها ( positrons ) والميونات ( muon ) .

يستمر توسع الكون وانخفاض درجة الحرارة .

    في الدقيقة ( 3 ) تجمعت البروتونات والنيترونات في أزواج لتكون الدوترونات التي اتحدت بدورها بأزواج لتشكل نوى ذرات الهليوم ( helium ) وبما أن عدد البروتونات أكبر فقد بقي عدداً كبيراً منها وحيداً.

يستمر توسع الكون وانخفاض درجة الحرارة .

 

    وبعد مرور ( 300,000 ) سنة أصبح الكون مزيجاً من الإشعاع والجسيمات المادية من ( إلكترونات – بروتونات – دوترونات ) .

    وعندما انخفضت درجة الحرارة إلى ( 3000 ) كلفن استطاعت البروتونات والدوترونات من أسر الإلكترونات ليتم بذلك تشكل المناصر الكيميائية الأساسية في الكون وهي الهيدروجين والهليوم وتشكلت بنسبة قليلة جداً نوى ذرات أثقل من الهليوم كالليثيوم .

 

وبذلك تكونت اللبنات الأساسية  لبناء مادة الكون .

 

يعطي نموذج الانفجار الكبير ملاحظة هامة جداً:

 

1-     يجب أن تكون ( 75% ) من مادة الكون مكونة من الهيدروجين و ( 25% ) الباقية مكونة من الهليوم .

بالفعل هذه النسبة تتفق مع الواقع المرصود اتفاقاً جيداً للغاية مما يعطي هذه النظرية قبولاً واسعاً بين أوساط العلماء .

وبعد مضي وقت كاف ( عدة ملايين من السنين ) تبرد الكون وأخذ الحجم والضغط الكافيين لتشكل المجرات ومن ثم تشكلت داخلها النجوم والكواكب وباقي الأجرام الفلكية وداخل تلك النجوم وبعد ملايين السنين تشكلت العناصر الكيميائية المكونة لنا ولعالمنا اليوم .

نظرية الانفجار الكبير و القرآن الكريم :

بعد هذا الاستعراض المكثف والسريع لهذه النظرية الجميلة عن نشوء الكون الذي نعيش فيه. نلاحظ أنها تلتقي مع القرآن الكريم والدين الإسلامي في نقاط كثيرة .

سأشير إلى اثنتين منها فقط لكي لا أطيل .

1 – تؤكد نظرية الانفجار الكبير بأن الكون يتمدد وهذا يتوافق مع مضمون الآية الكريمة رقم 47 من سورة الذاريات :

 

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) . صدق الله العظيم .

 

2 – ضمن المفهوم العام لنظرية الانفجار الكبير تأكيد على أن الكون بدأ من ( نقطة بداية ) إذاً لابد من وجود قوة ما خارجة عن تلك النقطة البدائية هي التي تحكمت وأشرفت وأوجدت تلك البداية .

وهذه القوة هي قوة الله عز وجل طبقاً لمفهومنا في الدين الإسلامي .

 

وهذا يتوافق مع مضمون الآية الكريمة رقم الآية 30 من سورة الأنبياء:

 

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) . صدق الله العظيم .

ولكن كيف تشكلت العناصر الكيميائية الثقيلة في الطبيعة :

تشع النجوم ونرى ضوءها لأنها حارة جداً وهي كذلك بسبب التفاعلات النووية الاندماجية التي تحدث في باطنها فالنجوم مفاعلات نووية سابحة في الفضاء .

تندمج في هذه التفاعلات النووية ذرات الهيدروجين لتكون الهليوم ويتحول فائض الكتلة عن عملية التحويل إلى طاقة هائلة وفق علاقة أينشتاين :

الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء

يحدث هذا التحول داخل النجم عند حرارة مقدارها ( 10 ) ملايين درجة مؤوية ويستمر هذا التفاعل النووي الاندماجي ملايين السنين حتى نفاذ الهيدروجين في قلب النجم فيتقلص النجم ويزداد الضغط الثقالي في داخله وترتفع درجة حرارة قلب النجم لتصل على ( 100 ) مليون درجة مؤوية عندها تتمكن ذرات الهليوم من الاندماج مكونة الفحم والأوكسجين ومحررة المزيد من الطاقة لتسمح بتكوين عناصر كيميائية أثقل كالنيون والمغنيزيوم والسيليكون وهكذا ……

تتوقف سلسلة التفاعلات النووية الاندماجية تلك عند الحديد الذي يعتبر أكثر العناصر الكيميائية استقراراً في الطبيعة وكتلة نواته تساوي ( 56 ) وحدة ذرية ( كتلة البروتون ) أي ( 14 ) مرة من كتلة نواة الهليوم ( 4 ) وحدة ذرية .

إذاً لا يمكن إنتاج مواد أثقل من الحديد وفق تفاعلات الاندماج النووي لأنه يتطلب طاقة هائلة ولا ينتج عنه أية طاقة .

فمن أين أتت العناصر الأثقل من الحديد في الطبيعة ؟

 تبنى العناصر الأثقل من الحديد في الطبيعة على حساب موت نجومها وانفجارها بشكل عنيف جداً وهذا الموت للنجم يسمى المستعر الأعظم ( super nova ) يتخلف عن هذا الانفجار طاقة هائلة تكفي لعملية تشكل مواد أثقل من الحديد كالنيكل والكوبالت بالإضافة إلى كميات كبيرة من المادة تدعى الغبار الكوني الذي يساهم في بناء وولادة نجوم جديدة تسمى نجوم الجيل الثاني ثم تتكرر العملية مولدة نجوم الجيل الثالث وهكذا …..

 

يمكن الاستدلال ومعرفة تركيب النجوم بالتحليل الطيفي للضوء الصادر عنها وبالفعل تظهر هذه التحاليل بأن النجوم الأكبر سناً تفتقر إلى العناصر الكيميائية الثقيلة بالمقاربة مع النجوم الأصغر سناً كنجوم الجيل الثاني والثالث .

 بالمناسبة شمسنا نجم من الجيل الثالث على الأقل وذلك لاحتواء جوها على عناصر كيميائية ثقيلة جداً .

وبالتالي فإن وجود العناصر الكيميائية الثقيلة في الكرة الأرضية وفي جسمي وأجسامكم هو دليل على أن السحابة البدئية التي ولدّت المجموعة الشمسية كانت قد طبخت في داخل نجوم الجيلين الثاني والثالث .

مصير الكون :

 إن لمقدار كثافة الكون دور كبير في تحديد عمر الكون ومصيره :

1 – فإذا كانت كثافة الكون أقل من ( قيمة معينة ) فإن الكون سيستمر في التمدد إلى الأبد .

2 –  أما إذا كانت الكثافة تساوي (قيمة معينة) فإن الكون سيصل إلى اتساع معين ثم يقف عنده .

 3 – أما إذا كانت الكثافة أكبر من (قيمة معينة ) فإن الكون سيصبح ضخماً جداً لينهار في النهاية على نفسه في عملية سحقٍ عظيمة .

والأدلة العلمية تؤكد أن الاحتمال الثالث هو الأقرب إلى الصحة وبالتالي فإن جمهور العلماء يميلون إلى الاعتقاد بأن الكون سوف ينغلق على نفسه في النهاية في عملية سحق عظيمة متجمعاً في نقطة بداية كما كان .

وهذا أيضاً متوافق مع قوله تعالى في سورة الأنبياء الآية رقم 104  :

يوم نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ  .

صدق الله العظيم .